فصل: تفسير الآيات رقم (4- 7)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


سورة محمد

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏1‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ‏(‏2‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏الذين‏}‏‏:‏ مبتدأ، و‏{‏أضل‏}‏‏:‏ خبر، و‏{‏من ربهم‏}‏‏:‏ من ضمير الحق، وجملة ‏{‏وهو‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏:‏ اعتراضية بين المبتدأ والخبر، و‏{‏ذلك‏}‏‏:‏ مبتدأ، و‏{‏بأن‏}‏‏:‏ خبر‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏الذين كفروا وصَدوا عن سبيل الله‏}‏ أي‏:‏ أعرضوا وامتنعوا عن الدخول في الإسلام، أو صدُّوا غيرهم عنه‏.‏ قال الجوهري‏:‏ صدّ عنه، يَصِدّ، صُدُوداً‏:‏ أعْرَض، وصدَّهُ عن الأمر صَدّاً، مَنَعَه، وصَرَفه عنه‏.‏ ه‏.‏ وهم المطعمون يوم بدر، أو‏:‏ أهل الكتاب، كانوا يصدون مَن أراد الدخول في الإسلام، منهم ومن غيرهم، أو عام في كل مَن كفر وصدّ، فهؤلاء ‏{‏أضلَّ أعمالهم‏}‏ أي‏:‏ أحبطها وأبطلها، أي‏:‏ جعلها ضالة ضائعة، ليس لها مَن يتقبلها ويُثيب عليها، كضالة الإبل‏.‏ وليس المعنى أنه أبطلها بعد أن لم تكن كذلك، بل بمعنى‏:‏ أنه حكم ببطلانها وضياعها، فإنَّ ما كانوا يعملونه من أعمال البر، كصِلة الأرحام، وقِرى الضيف، وفك الأسارى، وغيرها من المكارم، ليس لها أثر من أصلها؛ لعدم الإيمان، أو‏:‏ أبطل ما عملوا من الكيد برسول الله صلى الله عليه وسلم، والصد عن سبيله، بنصر رسوله، وإظهار دينه على الدين كله، وهو الأوفق بقوله‏:‏ ‏{‏فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 8‏]‏‏.‏

‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ قيل‏:‏ هم ناس من قريش، وقيل‏:‏ من الأنصار، وقيل‏:‏ مَن آمن مِن أهل الكتاب، والمختار أنه عام، ‏{‏وآمَنوا بما نُزِّل على محمد‏}‏ صلى الله عليه وسلم، وهو القرآن، وخُصّ بالذكر من بين ما يجب الإيمان به؛ تنويهاً بشأنه، وتنبيهاً على سُمو مكانه من بين ما يجب الإيمان به، وأنه الأصل في الكل؛ ولذلك أكّده بقوله‏:‏ ‏{‏وهو الحق من ربهم‏}‏ أي‏:‏ القرآن‏:‏ لكونه ناسخاً لغيره من الكتب، وقيل‏:‏ دين محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا يرد عليه النسخ، وهو ناسخ لسائر الأديان، ‏{‏كفَّر عنهم سيئاتهم‏}‏ أي‏:‏ ستر بالإيمان والعمل الصالح ما كان منهم من الكفر والمعاصي؛ لرجوعهم عنها بالتوبة ‏{‏وأصلح بالهم‏}‏ أي‏:‏ حالهم وشانهم، بالتوفيق لأمور الدين، وبالتسليط على الدنيا، بما أعطاهم الله من النصرة والعزة والتمكين في البلاد‏.‏

‏{‏ذلك بأن الذين كفروا اتَّبعوا الباطلَ وأنَّ الذين آمنوا اتَّبعوا الحق من ربهم‏}‏ أي‏:‏ ذلك الأمر، وهو إضلال أعمال أهل الكفر، وتفكير سيئات أهل الإيمان، وإصلاح شأنهم؛ كائن بسبب اتباع هؤلاء الباطلَ؛ وهو الشيطان، حيث فعلوا ما فعلوا من الكفر والصد، واتباع هؤلاء الحق، وهو القرآن، أو ما جاء به صلى الله عليه وسلم، أو يراد بالباطل‏:‏ الزائل الذاهب من الدّين الفاسد، وبالحق‏:‏ الدين الثابت، أو يراد بالباطل‏:‏ نفس الكفر والصد، وبالحق‏:‏ نفس الإيمان والأعمال الصالحة‏.‏

‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ مثل الضرب البديع ‏{‏يضرب اللّهُ‏}‏ أي‏:‏ يُبين ‏{‏للناس أمثالهم‏}‏ أي‏:‏ أحوال الفريقين، وأوصافهما، الجارية في الغرابة مجرى الأمثال، وهو اتباع الأولين الباطلَ، وخيبتهم وخسرانهم، واتباع الآخرين الحقَّ، وفوزهم وفلاحهم، والضمير راجع إل الناس، أو إلى المذكورين من الفريقين، على معنى‏:‏ أنه يضربُ أمثالهم لأجل الناس ليعتبروا بهم، وقد جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكافرين، واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين، أو جعل الإضلال مثلاً لخيبة الكفار، وتكفير السيئات مثلاً لفوز الأبرار‏.‏

الإشارة‏:‏ الذين كفروا بوجود الخصوصية، وصدُّوا الناسَ عنها؛ أبطل سيرهم إليه، فكلما ساروا رجعوا، والذين آمنوا الإيمان الكامل واتعبوا السنّة النبوية، ستر مساوئهم، وأصلح شأنهم، حتى صلحوا لحضرته‏.‏ قال القشيري‏:‏ الذين كفروا‏:‏ امتنعوا، وصدُّوا‏:‏ مَنَعوا، فلامتناعهم عن الله استوجبوا العقوبة، ولمنعهم الخلق عن الله استوجبوا الحَجْبَةَ‏.‏ ثم قال في قوله‏:‏ ‏{‏وأصلح بالهم‏}‏ فالكفر للأعمال مُحْبطٌ، والإيمان للخلود مُسْقِط، ويقال‏:‏ الذين اشتغلوا بطاعة الله، ولم يعملوا شيئاً مما خالف اللّهَ- فلا محالة- يقوم الله بكفاية أشغالهم‏.‏ ه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بأنَّ الذين كفروا اتبعوا الباطل‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قال الورتجبي‏:‏ اتبع الكفرة ما وقع في مخايلهم، من هواجس النفس، ووساوس الشيطان، ولا يقبلون طرائق الرشد من حيث الوحي والإلهام، وأنَّ الذين صدقوا في دين الله، وشاهدوا الله بالله، واتبعوا سنّة رسوله وخطابه، وما يقع في أسرارهم من النور والبيان، والإلهام والكلام، بنعت الإخلاص في طاعته، والأدب في خدمته والإعراض عن غيره، قال ابن عطاء‏:‏ اتباع الباطل‏:‏ ارتكاب الشهوات وأمالي النفس، واتباع الحق‏:‏ اتباع الأوامر والسنن‏.‏ ه‏.‏ قال القشيري‏:‏ اتباع الحق بموافقة السنة، ومتابعة الجد في رعاية الحق وإيثار رضاه، والقيام بالطاعة، واتباع الباطل‏:‏ الابتداع والعمل بالهوى، وإيثار الحظوظ وارتكاب المعصية‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 9‏]‏

‏{‏فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏4‏)‏ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ‏(‏5‏)‏ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ‏(‏6‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ‏(‏7‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏8‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏فضَرْب‏}‏‏:‏ مصدر، نائب عن فعله، مضاف إلى مفعوله، و‏{‏مَنّاً‏}‏ و‏{‏فِدَاءً‏}‏‏:‏ مصدران لمحذوف، و‏{‏الذين كفروا‏}‏‏:‏ مبتدأ حُذف خبره، وهو العامل في المصدر، أي‏:‏ والذين كفروا فأتعسهم تعساً، و‏{‏أضل أعمالهم‏}‏‏:‏ عطف على الخبر المحذوف‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فإِذا لقيتم الذين كفروا‏}‏ في المحاربة ‏{‏فَضَرْبَ الرقابِ‏}‏ أصله‏:‏ فاضربوا الرقاب ضرباً، فحذف الفعل وناب عن مصدره؛ للاختصار، مع إعطاء معنى التوكيد، لدلالة نصبه على مؤكده، وضرب الرقاب عبارةٌ عن مطلق القتل، والتعبير به عن القتل تصوير له بأشنع صورة وتهويل لأمره، وإرشاد للغزاة إلى أيسر ما يكون، ‏{‏حتى إِذا أَثخنتموهم‏}‏ أكثرتم فيه القتل، وأغلظتموه، من‏:‏ الشيء الثخين، وهو الغليظ، أو‏:‏ أثقلتموهم بالجِراح وهزمتموهم، ‏{‏فشُدُّوا الوَثاقَ‏}‏ أي‏:‏ فأسِروهم، وشُدوا وثاقهم، لئلا يتفلتوا، والوثاق بالفتح والكسر‏:‏ ما يشد به‏.‏ فإذا أسرتموهم فتخيّروا فيهم ‏{‏وإِما فِدَاءً‏}‏ أن تفدوا فداءً، والمعنى‏:‏ التخيُّر بين الأمرين بعد الأسر، بين أن يَمُنُّوا عليهم فيطلقوهم، وبين أن يُفادوهم، ومذهب مالك‏:‏ أن الإمام مُخَيَّر في الأسارى بين خمسة، وهي‏:‏ المنّ، والفداء، والقتل، والاسترقاق، وضرب الجزية، وقيل‏:‏ لا يجوز المَن ولا الفداء؛ لأن الآية منسوخة بقوله‏:‏ ‏{‏فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ فيتعين قتلهم، والصحيح أنها محكمة، ومَذْهَب الشافعي‏:‏ أن الإمام مُخير بين أربعة‏:‏ القتل، والاسترقاق، والفداء بأسارى المسلمين، والمنّ‏.‏ ولعل الجزية عنده خاصة بأهل الكتاب‏.‏

ومذهب أبي حنيفة‏:‏ التخيير بين القتل والاسترقاق فقط، قال‏:‏ والآية منسوخة؛ لأن سورة براءة آخر ما نزل‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ ليس اليوم مَنّ ولا فداء، والمراد بالمنّ في الآية‏.‏

أن يمنّ عليهم بترك القتل، فيسترقوا، أو يمنّ عليهم بإعطاء الجزية‏.‏ ه‏.‏

والمشهور‏:‏ مذهب مالك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل عقبةَ بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، يوم بدر صبراً، وفادى سائر الأسارى، ومَنَّ على ثمامة بن أثال الحنفي، وهو أسير، وارتق نساء بني قريظة، فابعهم، وضرب الجزية على نصارى نجران ومجوس هاجر‏.‏

ثم ذكر غاية الحرب فقال‏:‏ ‏{‏حتى تضع الحربُ أوزارها‏}‏ أي‏:‏ اضربوا رقابهم حتى تضع الحرب أثقالها، وآلاتها، التي لا قوم إلا بها، كالسلاح والكراع، وذلك حيث لم يبقَ حرب، بأن تضع أهل الحرب عُدتها، وقيل‏:‏ ‏{‏أوزارها‏}‏ آثامها، يعني‏:‏ حتى يترك أهل الحرب المشركين شركهم، بأن يُسلموا جميعاً‏.‏ والمختار‏:‏ أن المعنى‏:‏ أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى يظهر الإسلام على سائر الأديان، ويؤمن أهل الكتاب، طوعاً أو كرهاً، ويكون الدين كله للّه، فلا يحتاج إلى قتال‏.‏ وقال الحسن‏:‏ معناه،‏:‏ حتى لا يُعبد إلا الله‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ظاهر اللفظ‏:‏ أنها استعارة، يُراد بها التزام الأمر كذلك أبداً، كما تقول‏:‏ أنا أفعل ذلك إلى يوم القيامة‏.‏

ه‏.‏ فالغاية ب «حتى» راجعة إلى الضرب والشد، وما ترتب عليه من المنّ والفداء‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ الأمر ذلك، أو افعلوا ذلك، ‏{‏ولو يشاء اللّهُ لانتصرَ‏}‏ لانتقم ‏{‏منهم‏}‏ بغير قتال؛ بأن ينزل بهم أسباب الهلاك والاستئصال، كالخسف أو الرجف أو غير ذلك، ‏{‏ولكن‏}‏ أمركم بالقتال ‏{‏ليَبلُوا بعضَكم ببعض‏}‏ أي‏:‏ المؤمنين بالكافرين، فأمَرَهم بالجهاد ليستوجبوا الثواب العظيم، وليسلم مَن سبق إسلامه من الكافرين‏.‏ ‏{‏والذين قاتلوا في سبيل الله‏}‏ لإعلاء كلمة التوحيد، لا لغرض آخر، ‏{‏فلن يُضِلَّ أعمالَهم‏}‏ فلن يضيعها‏.‏

‏{‏سيهديهمْ‏}‏ في الدنيا إلى طريق الرشد والصواب، وفي الآخرة إلى جزيل الثواب وقيل‏:‏ يهديه إلى جواب منكر ونكير، ‏{‏ويُصلحُ بالَهم‏}‏ بأن يَقبل أعمالهم ويُرضي خصماءهم، ‏{‏ويُدخلهم الجنةَ عَرَّفها لهم‏}‏‏.‏ قال مجاهد‏:‏ عرّفهم مساكنهم فيها؛ حتى لا يحتاجوا إلى دليل لها، أو‏:‏ طَيَّبها، من‏:‏ العَرف، وهو طيب الرائحة، ويمكن الجمع‏:‏ بأن عَرْف المحل يهدي صاحبَه إلى جنته ومحله‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إِن تنصروا اللهَ‏}‏ بنصر دينه وإظهار شريعة نبيه ‏{‏ينصركمْ‏}‏ على عدوكم، ويفتح لكم، ‏{‏ويُثبت أقدامكم‏}‏ في مواطن الحرب ومواقفها، أو على محجة الإسلام، ‏{‏والذين كفروا فتعساً لهم‏}‏ أي‏:‏ فيقال‏:‏ تعساً لهم، والتعس‏:‏ الهلاك، أو السقوط والانحطاط، أو العثار، أو البُعد‏.‏ وقال ابن السكيت‏:‏ التعس‏:‏ أن يجر على وجهه‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ أتعسهم الله تعساً، أي‏:‏ أهلكهم وأبعدهم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ «في الدنيا بالقتل والأسر، وفي الآخرة بالتردي في النار»‏.‏ والمراد بالذين كفروا عام، وقيل‏:‏ المراد مَن يضاد الذين ينصرون دين الله، كأنه قيل‏:‏ إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، ومَن لم ينصره فتعساً له، فوضع ‏{‏الذين كفروا‏}‏ موضع مَن لم ينصره؛ تغليظاً، فهو وِفقٌ لأسلوب السورة من التقابل المعنوي، فهو عطف جملة على جملة شرطية مثلها، ولذلك دخلت الفاء في خبر الموصول، كما قرره الزجاج‏.‏ انظر الطيّبي‏.‏ ه‏.‏ من الحاشية‏.‏ ‏{‏وأضَلَّ أعمالَهم‏}‏ أي‏:‏ أحبطها وأبطلها‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ التعس والإضلال ‏{‏بأنهم كَرِهوا ما أنزلَ اللّهُ‏}‏ من القرآن؛ لما فيه من التوحيد؛ وسائر الأحكام، المخالفة لما ألفوه واشتهته أنفسهم الأمّارة بالسوء، ‏{‏فأحْبَط‏}‏ لأجل ذلك ‏{‏أعمالَهم‏}‏ التي كانوا عَمِلُوها، من صلة الأرحام وغيرها‏.‏

الإشارة‏:‏ نهايةُ الجهاد الأصغر‏:‏ وضعُ الحرب أوزارَها بالإسلام أو السّلم، ونهاية الجهاد الأكبر‏:‏ استسلامُ النفس وانقيادها لما يُراد منها، أو موتها بالغيبة عنها بالكلية‏.‏ قال بعض العارفين‏:‏ انتهى سير السائرين إلى الظفر بنفوسهم، فإن ظفروا بها وصلوا‏.‏ ه‏.‏ فالإشارةُ بقوله‏:‏ ‏{‏إذا لقيتم الذين كفروا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ إلى قتل الهوى والشطيان وسائر القواطع، حتى إذا أثخنتموهم فشُدُّوا وثاقهم، ولا تأمنوا غائلتهم‏.‏

قال القشيري، بعد كلام‏:‏ وكذلك العبد إذا ظفر بنفسه؛ فلا ينبغي أن يُبْقِيَ بعد انتقَاش شَوْكها بقيةً، ولا في قلع شجرها مستطاعاً وميسوراً؛ فالحيّة إن بقيت منها بقية من الحياة مَنْ وضع عليها إصبُعَه بَثَّتْ سُمَّها فيه‏.‏

ه‏.‏ فإذا تمكنتم من معرفة الله، فإما أن تَمُنوا عليها بترك جِهادها الأكبر، وإما أن تفدوها بالغيبة عنها في حلاوة الشهود، حتى تضع الحرب أوزارها بالموت، ولو شاء اللّهُ لخلّصكم منها من غير جهاد، فالقدرة صالحة، ولكن ليختبركم، فيظهر السائرون من القاعدين مع حظوظهم «لولا ميادينُ النفوس ما تحقق سير السائرين»‏.‏ والذين قاتلوا نفوسَهم في سبيل الله وطلب معرفته، فلن يُضل أعمالَهم، سيهديهم إلى معرفته، ويُصلح بالهم بالاستغراق في شهوده، ويُدخلهم جنة المعارف، قد عرَّفها لهم، وبيَّنها على أيدي الوسائط من الشيوخ العارفين، أو طيّبها لهم، فيهتدون بنسيم واردات التوجه، إلى أنوار المواجهة‏.‏ وقد أشار تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏والذين قاتلوا في سبيل الله‏}‏ إلى طلب الإخلاص، فلا يوصل الجهاد الأصغر ولا الأكبر إلى رضوان الله، أو معرفته، إلا بتحقُّق الإخلاص، من غير التفات لغرض نفساني، لا عاجلاً ولا آجلاً‏.‏

ذكر الشيخ أبو نعيم الحافظ‏:‏ أن ميْسرة الخادم، قال‏:‏ غزونا في بعض الغزوات، فإذا بفتى جانبي، وهو مقنَّع بالحديد، فحمل على الميمنة، ثم الميسرة، ثم على القلب، ثم أنشأ يقول‏:‏

أَحْسِنْ بمَولاكَ سَعيدُ ظنّاً *** هَذَا الذِي كُنتَ تَمَنَّى

تَنَح يا حُورَ الْجنَانِ عَنَّا *** مَا فيك قَاتَلْنَا ولا قُتِلْنا

لكِنْ إِلى سَيدكُنَّ اشْتَقْنَا *** قَدْ عَلِم السر وما أَعْلَنَّا

قال‏:‏ فحمَل فقاتل، فقَتَل منهم عدداً، ثم رجع إلى موقفِه، فتكالب عليه العدو، فحملَ، وأنشأ يقول‏:‏

قد كُنْتُ أَرْجُوا وَرَجَائي لَمْ يَخِبْ *** أَلاَّ يَضيعَ الْيَومَ كَدِّي والطَّلَبْ

يا مَن ملأ تِلْكَ الْقُصُورِ باللعب *** لَولاَكَ مَا طَابَتْ ولاَ طَابَ الطَّرَب

ثم حمَلَ فقاتل، فقَتل عدداً كثيرا، ثم رجع إلى مصافه، فتكالب عليه العدو، فحملَ ثالثة، وأنشأ يقول‏:‏

يَا لُعبةَ الْخُلْدِ قِفِي ثُمَّ اسْمَعِي *** ما لَكِ قَاتَلْنَا فَكُفّي وَارْجِعي

ثُمَّ ارْجِعِي إلى الْجِنَانِ وأَسْرعي *** لاَ تَطْمعِي لاَ تَطْمعِي لاَ تَطْمعِي

فقاتل رضي الله عنه حتى قُتل- رحمه الله‏.‏ ه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تنصروا الله ينصركمْ ويُثبتْ أقدامكمْ‏}‏ فيه ترغيب وتنشيط لأهل الوعظ والتذكير، الداعين إلى الله، الذين يسعون في أظهار الدين، وإرشاد عباد الله إلى محبة الله وطاعته‏.‏ وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «والذي نفس محمد بيده، لئن شئتم لأقسمن لكم، أن أحب عباد الله إلى الله الذين يُحببون اللّهَ إلى عباده، ويُحببون عبادَ اللهَ إلى الله، ويمشون في الأرض بالنصيحة» وقال أيضاً‏:‏ «الخلق عيال الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله» وأعظم النفع‏:‏ إرشادهم إلى الله، الذي هو سبب سعادتهم السرمدية‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ نُصرةُ العبد لله‏:‏ أن يجاهد نفسه وهواه وشيطانه، فإنهم أعداؤه، فإذا خاصمها يُقويه الله وينصره عليهم، بأن يدفع شرهم عنه، ويجعله مستقيماً في طاعة الله، ويجازيه بكشف جماله، حتى يَثْبُتَ في مقام العبودية، وانكشاف أنوار الربوبية‏.‏ ه‏.‏

قال القشيري‏:‏ ونصرةُ الله للعبد بإعلاء كلمته، وقمع أعدائه‏.‏ ثم قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويُثبت أقدامكم‏}‏ هو إدامة التوفيق، لئلا ينهزم من صَوْلة أعداء الدين، ولا يَضعُف قلبُه في معاداتهم، ولا ينكسر باطنُه ثقةً بالله في إعزازِ دينه‏.‏ ه‏.‏ ثم ذكر تعالى أضداد الداعين إلى الله، الناصرين لدينه، وهم المنتقدون عليهم، فقال‏:‏ ‏{‏والذين كفروا فتسعاً لهم‏}‏ أي‏:‏ خيبةً لهم، ‏{‏وأضل أعمالهم‏}‏ فلا يتوصلون بها إلى معرفته، لكونها معلولة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 12‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ‏(‏10‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ‏(‏11‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ‏(‏12‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أفلم يسيروا‏}‏ أي‏:‏ أَقعدوا فلم يسيروا ‏{‏في الأرض‏}‏ يعني كفار مكة، ‏{‏فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلهم‏}‏ من الأمم المكذبة‏؟‏ فإنّ آثار ديارهم تنبئ عن أخبارهم، فقد ‏{‏دَمَّر اللَّهُ عليهم‏}‏ فالجملة‏:‏ استئناف مبني على سؤال، كأنه قيل‏:‏ كيف كان عاقبتهم‏؟‏ فقيل‏:‏ استأصل الله عليهم ما اختص بهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم، يُقال‏:‏ دمّره؛ أهلَكه، ودمّر عليه‏:‏ أهلك عليه ما يختص به، قاله أبو السعود‏.‏ وفي الصحاح‏:‏ الدمار‏:‏ الهلاك، دمّره تدميراً، ودمَّر عليه، بمعنى‏.‏ ه‏.‏ فظاهرة‏:‏ أن معناهما واحد، وفسره في الأساس بالهلاك المستأصل، وقال الطيبي‏:‏ في دمّر عليهم تضمينُ معنى أطبقَ، فعُدي بعلى، ولذلك استأصل‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وللكافرين‏}‏ أي‏:‏ ولهؤلاء الكافرين السائرين بسيرَتِهم ‏{‏أمثالُها‏}‏ أي‏:‏ أمثال تلك الهلكة المفهومة من التدمير، أو أمثال عواقِبهمْ أو عُقوبَاتهم، لكن لا على أنّ لهؤلاء أمثال ما لأولئك وأضعافَه؛ بل مثله، وإنما جمع باعتبار مماثلته لعواقب متعددة، حسبما تعدّد الأمم المعذّبة، ويجوز أن يكون عذابُهم أشدّ من عذاب الأولين فقد قُتلوا وأُسروا بأيدي مَن كانوا يستخفونهم ويستضعفونهم، والقتل بيد المثل أشد ألماً من الهلاك بسبب عام، وقيل‏:‏ دمَّر اللّهُ عليهم في الدنيا، ولهم في الآخرة أمثالُها‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي‏:‏ نصرُ المؤمنين وهلاكُ الكافرين في الحال أو المآل ‏{‏بأنَّ اللّهَ مولى الذين آمنوا‏}‏ أي‏:‏ ناصِرُهم ومعِزَّهُم ‏{‏وأنَّ الكافرين لا مولى لهم‏}‏ فيدفع عنهم ما حَلّ بهم من العقوبة، ولا يخالف هذا قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 62‏]‏ لأن المولى هناك بمعنى المالك‏.‏

‏{‏إِن الله يُدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناتِ تجري من تحتها الأنهارُ‏}‏ وهذا بيان لحكم ولاية الله لهم وثمرتها الأخروية، ‏{‏والذين كفروا يتمتعون‏}‏ في الدنيا بمتاعِها أياماً قلائل، ‏{‏ويأكلون‏}‏ غافلين عن عَواقبهم، غير متفكرين فيها ‏{‏كما تأكل الأنعامُ‏}‏ في مسارحها، غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح، فالتشبيهُ بالأنعام صادقٌ بالغفلةِ عن تدبير العاقبة، وعن شكر المنعِم، وبعدم التمييز للمُضر من غيره، كأكل الحرام وعدم تَوَقيه، وكذا كونُه غير مقصورٍ على الحاجة، ولا على وقتها، وسيأتي في الإشارة إن شاء الله‏.‏ ‏{‏والنارُ مثوىً لهم‏}‏ أي‏:‏ منزلُ ثوَاه وإقامته، والجملةُ إما حال مقدرةٌ من واو ‏{‏يأكلون‏}‏، أو استئناف‏.‏

الإشارة‏:‏ تفكُّر الاعتبار يكون في أربعة، الأول‏:‏ في سرعة ذهاب الدنيا وانقراضها، كأضغاث أحلام، وكيف غرَّت مَن انتشب بها، وأخذته في شبكتها، حتى قدِم على الله بلا زاد، وكيف دَمّر اللّهُ على أهل الطغيان، واستأصل شأفتهم، فيُنتج ذلك التشمير والتأهُّب ليوم الجزاء‏.‏ الثاني‏:‏ في دوام دار البقاء، ودوام نعيمها، فينتهز الفرصة في العمل الصالح،‏.‏ الثالث‏:‏ في النِعَم التي أنعم الله بها على عباده، الدنيوية والأخروية، الحسية والمعنوية، قال تعالى‏:‏

‏{‏وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 34‏]‏ فينْتِج ذلك الشكر، لتدوم عليه‏.‏ الرابع‏:‏ في نصب هذه العوالم، على ما هي عليه من الإبداع والإتقان، فيُثمر ذلك معرفةَ الصانع، وباهرِ قدرته وحكمته‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، قال القشيري‏:‏ المَوْلَى‏:‏ المحِبُّ، فهو محب الذين آمنوا، والكافرين لا يُحبهم، ويصح أن يُقال‏:‏ أرجى آيةٍ في القرآن هذه الآية، لم يقل مولى الزُهّاد والعُبّاد وأصحاب الأورادِ والاجتهاد‏:‏ بل قال‏:‏ ‏{‏مولى الذين آمنوا‏}‏ والمؤمن وإن كان عاصياً فهو من جملتهم‏.‏ ه‏.‏ والمحبة تتفاوت بقدر زيادة الإيمان والإيقان حتى يصير محبوباً مقرباً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام‏}‏ وكذلك الغافل، فالأنعام تأكل بلا تمييز، من أي موضع وجدت، كذلك الجاهل، لا تمييز له من الحلال أو من الحرام، والأنعام ليس لها وقت لأكلها، بل تأكل في كل وقت، وكذلك الغافل والكافر‏.‏ فقد ورد «أن الكفار يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يجتزئ بما تيسّر»، كما في الخبر‏:‏ «ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرّاً من بطنٍ» والأنعام تأكل على الغفلة، فمَن كان في أكله ناسياً لربه، فأكلُه كأكل الأنعام‏.‏ انظر القشيري‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ‏(‏13‏)‏ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏كأيّن‏}‏‏:‏ كلمة مركبة من الكاف و«أيّ»، بمعنى كم الخبرية، ومحلها‏:‏ الرفع بالابتداء، وقوله‏:‏ ‏{‏هي أشد‏}‏‏:‏ نعت لقرية، و‏{‏أهلكناهم‏}‏‏:‏ خبر، وحذف المضاف، أي‏:‏ أهل قرية، بدليل «أهكناهم»‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وكأيِّن من قريةٍ‏}‏ أي‏:‏ كثير من أهل قرية ‏{‏هي أشدُّ قوةً من قريتك‏}‏ مكة، ‏{‏التي أخرجتك‏}‏ أي‏:‏ تسببوا في خروجك، أي‏:‏ وكم من قوم هم أشدُّ قوةً من قومك الذين أخرجوك، ‏{‏أهلكناهم‏}‏ بأنواع العذاب، ‏{‏فلا ناصرَ لهم‏}‏ فلم يكن لهم مَن ينصرهم ويدفعُ العذابَ عنهم، فأنتم يا معشر قريش أهونُ منهم، وأولى بنزول ما حجل بهم‏.‏

‏{‏أفمَن كان على بينة من ربه‏}‏ أي‏:‏ حُجةٍ واضحةٍ، وبرهانٍ قاطع، وهو القرآن المعجزُ، وسائر المعجزات، يعني‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‏{‏كمن زُيِّن له سوءُ عمله‏}‏ وهو أهل مكة، زين للشيطانُ شركَهم وعداوتَهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ‏{‏واتبَعوا أهوائهم‏}‏ الزائغة، ونهمكوا في فنون الضلالات، من غير أن يكون لهم شُبهة توهم صحة ما هم عليه، فضلاً عن حُجةٍ تدل عليها‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بمَن كان على بينة‏:‏ المؤمنون فقط، المتمسكون بأدلة الدين‏.‏

قال أبو السعود‏:‏ وجعلُها عبارة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن المؤمنين، لا يُساعد النظم الكريم، عى أن الموازاة بينه صلى الله عليه وسلم، وبين مَن زُيّنَ له سوءُ عمله مما يأباه مَنصِبُه الجليل‏.‏ والتقدير‏:‏ أليس الأمر كما ذُكِر‏؟‏ فمَن كان مستقرّاً على حُجةٍ ظاهرة، وبرهانٍ نيّر من مالكٍ أمره ومُربّيه، وهو القرآن، وسائر الحجج العقلية، ‏{‏كمَن زُين له سوء عمله‏}‏ من الشرك وسائر المعاصي، مع كونه في نفسه أقبح القبائح‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ في الآية تهديدٌ لمَن يُؤذي أولياءَ الله، ويُخرجهم من مواطنهم بالهلاك العاجل أو الآجل‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن كان على بينة من ربه‏}‏ تقدّم في سورة هود الكلام عليها‏.‏ وقال القشيري هنا، في تفسير البينة‏:‏ هي الضياء والحُجة والاستبصار بواضح المحجة، فالعلماء في ضياء برهانهم، والعارفون في ضياء بيانهم، فهؤلاء بأحكام أدلة الأصول يُبصرون، وهؤلاء بحُكم الإلهام والوصول يستبصرون‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏مثل‏}‏‏:‏ مبتدأ حُذف خبره، أي‏:‏ صفة الجنة ما تسمعون، وقدَّره سيبويه‏:‏ فيما يُتلى عليكم مثل الجنة، وقيل‏:‏ المثل زائد، أي‏:‏ الجنة فيها أنهار‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، و‏{‏كمَن هو خالد‏}‏‏:‏ خبر لمحذوف، أي‏:‏ أَمَن هو خالد في هذه الجنة، كمَن هو خالد في النار‏؟‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏مَثلُ الجنةِ‏}‏ أي‏:‏ صفتها العجيبة، العظيمة الشأن ‏{‏التي وُعدَ المتقون‏}‏ الشركَ والمعاصي، هو ما نذكره لكم، ‏{‏فيها أنهار من ماء غيرِ آسنٍ‏}‏ غير متغير الطعم واللون والرائحة، يقال‏:‏ أسن الماء‏:‏ إذا تغير، سواء أنتن أم لا، فهو آسن وأسِن، ‏{‏وأنهار من لبن لم يتغيّر طعمُه‏}‏ كما تتغير ألبان الدنيا بالحموضة وغيرها، وانظر إذا تمنّاه كذلك مربّباً أو مضروباً‏.‏ والظاهر‏:‏ أنه يعطَاه كذلك، إذ فيها ما تشتهيه الأنفس‏.‏ ‏{‏وأنهارٌ من خبرٍ لذةٍ للشاربين‏}‏ أي‏:‏ لذيذة، ليس فيها كراهة طعم وريح، ولا غائلة سُكْرٍ، وإنما هي تلذُّذ محضٌ‏.‏ و«لذة»‏:‏ إما تأنيث «لذّ» بمعنى لذيذ، أو‏:‏ مصدر نُعت به للمبالغة‏.‏

‏{‏وأنهار من عسل مُصفى‏}‏ لم يخرج من بطون النحل فيخالطه شمع أو غيره، وفي حديث الترمذي‏:‏ «إنَّ في الجنة بحرَ الماء، وبحرَ اللبن، وبحرَ العسل، وبحرَ الخمر، ثم تُشَقَّقُ الأنهارُ بعدُ» قال‏:‏ حسن صحيح‏.‏ وعن كعب‏:‏ نهر دجلة من نهر ماء الجنة، والفرات نهر من لبنها، والنيل من نهر خمرها، وسَيْحان من نهر عسلها، والكل يخرج من الكوثر‏.‏ قلت‏:‏ ولعل الثالثة لمّا خرجوا إلى الدنيا تغيّر حالُهم، ليبقى الإيمان بالغيب‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

قيل‏:‏ بُدئ من هذه الأنهار بالماء؛ لأنه لا يُستغنى عنه قط، ثم باللبن؛ لأنه يجري مجرى المطعوم والمشروب في كثير من الأوقات، ثم بالخمر؛ لأنه إذا حصل الريّ المطعومُ تشوقت النفسُ إلى ما يلتذ به، ثم بالعسل؛ لأنه فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم؛ فهو متأخر في الرتبة‏.‏

‏{‏ولهم فيها‏}‏ مع ما ذكر من فنون الأنعام ‏{‏من كل الثمراتٍ‏}‏ أي‏:‏ صنف من كل الثمرات‏.‏ ‏{‏و‏}‏ لهم ‏{‏مغفِرةٌ‏}‏ عظيمة ‏{‏من ربهم‏}‏ أي‏:‏ كائنة من ربهم، فهو متعلق أي‏:‏ مغفرة عظيمة من ربهم‏.‏ وعبّر بعنوان المغفرة دون الرحمة؛ إشعاراً بأن الميل إلى نعيم الأشباح نقص في الدارين يستوجب المغفرة‏.‏

أيكون هذا ‏{‏كمَن هو خالد في النار‏}‏ ‏؟‏ أو‏:‏ مثل الجنة كمثل جزاء مَن هو خالد في النار‏؟‏ وهو كلام في صورة الإثبات، ومعناه‏:‏ النفي، لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار، ودخوله في حيّزه، وهو قوله‏:‏ ‏{‏أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 14‏]‏، وفائدة حذف حرف الإنكار، زيادةُ تصويرٍ لمكابرة مَن يسوّي بين المتمسك بالبيّنة والتابع لهواه، وأنه بمنزلة مَن يُثبت التسوية بين الجنة، التي يجري فيها تلك الأنهار، وبين النار، التي يُسقى أهلها الحميم الحار، المُشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏وسُقوا ماءً حميماً‏}‏ حارّاً في النهاية، إذا دنا منهم شوى وجوههم، ووقعت فروة رؤوسهم ‏{‏فقَطَّع أمعاءهم‏}‏ مصارينهم، التي هي مكان تلك الأشربة‏.‏

نسأل الله العافية‏.‏

الإشارة‏:‏ مثل جنة المعارف، التي وُعدها المتقون كلَّ ما يشغل عن الله، فيها أنهار من ماء علوم الحقيقة، غير متغير صفاؤها، ولا متكدرة أنوارُها، وأنهار من لبن علوم الشريعة المؤيَّدة بالكتاب والسنّة، لم تتغير حلاوة معاملتها، ولا لذة مناجاتها، وأنهار من خمرة الشهود، لذة للشاربين لها، تذهل حلاوتها العقول، وتفوتُ عن مداركِ النقول، وأنها من عسل حلاوة المكالمة والمسارَرة والمناجاة، صافيات الأوقات، محفوظة من المكدرات، ولهم فيه من طُرف الحِكَم وفواكه العلوم، ما لا تحصيه الطروس، ولا تدركه محافل الدروس‏.‏

قال القشيري‏:‏ ‏(‏مثل الجنة‏)‏ أي‏:‏ صفتها كذا، وللأولياء اليوم، لهم شراب الوفاء، ثم شراب الصفاء، ثم شراب الولاء، ثم شراب في حال اللقاء، ولكل من هذه الأشربة عملٌ، ولصاحبه سُكرٌ وصحوٌ، فمَن تحسّى شراب الوفاء لم ينظر إلى أحد من الخلق في أيام غيبته عن إحساسه، وأنشدوا‏:‏

وَمَا سَرَّ صَدْرِي مُنْذُ شَطَّتْ بِكَ النَّوى *** أنيس وَلاَ كَأْسٌ ولاَ مُتطرف

ومَن شرب بكأس الصفا خلص له عن كل شوب بلا كدورة في عهده، فهو في كل وقت ظامئ عن نفسه، خالٍ عن مطالباته، قائم به، بلا شغل في الدنيا ولا في الآخرة، ومَن شرب كأس الولاء عدم فيه القرار، ولم يغب سيرُه لحظة، ليلاً ولا نهاراً، وَمن شرب في حال اللقاء أَنِسَ على الدوام ببقائه؛ فلم يطلب مع بقائه شيئاً آخر، لا من عطائه ولا من لقائه لاستهلاكه في علائه عند سطوات كبريائه‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ أما شراب الوفاء؛ فهو عَقد الإرادة مع الشيخ، أو عقد المحبة والخدمة مع الحق، فيجب الوفاء بكل منهما، وهو كشُرب العطشان من الماء العذب، وأما شراب الصفاء فهو صفاء العلم بالله، وهو كاللبن تتغذى به الأرواح في حال ترقيها إلى الحضرة، وأما شراب الولاء فهو شراب أهل التمكين من الولاية الكبرى، فيشربون من الخمرة الأزلية، فيسكرون، ثم يصحون، وفيها يقول الششتري رضي الله عنه‏:‏

لا شراب الدوالِي، إنها أرضيه *** خمرُها دُون خمري، خمرتي أزليه

وأما شراب حال اللقاء؛ فالمراد به، أوقات رجوعهم إلى البقاء، فيتفنّنون في علوم الحكمة وحلاوة المعاملة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 18‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ‏(‏16‏)‏ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ‏(‏17‏)‏ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏آنفاً‏}‏‏:‏ قال الزمخشري ومَن تبعه‏:‏ ظرف، أي‏:‏ الساعة، وقال أبو حيان‏:‏ لا أعلم أحداً عدّه من الظروف، وجوَّز «مَكيّ» فيه الظرف والحالية‏.‏ قال الهروي‏:‏ «آنفاً» مأخذوة من‏:‏ ائتنفت الشيء‏:‏ إذا ابتدأته، وروضة أنُفٌ‏:‏ إذا لم تُرعَ‏.‏ المعنى‏:‏ ماذا قال في وقت يقرب من وقتنا‏؟‏ و‏{‏أن تأتيهم‏}‏‏:‏ بدل اشتمال من الساعة‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ومنهم مَن يستمعُ إليك‏}‏ وهم المنافقون، كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسمعون كلامه ولا يَعُونَه، ولا يُراعونَه حق رعايته، تهاوناً منهم، ‏{‏حتى إِذا خرجوا من عندك قالوا للذين أُوتوا العلم‏}‏ من الصحابة رضي الله عنهم‏:‏ ‏{‏ماذا قال آنفاً‏}‏ ما الذي قال الساعة‏؟‏ على طريقة الاستهزاء، أو‏:‏ ما القول الذي ائتنفه الآن قبل انفصالنا عنه‏؟‏

وقال مقاتل‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، ويعيب المنافقين، فسمع المنافقون قوله، فلما خرجوا من المسجد، سألوا ابنَ مسعود عما قال النبي صلى الله عليه وسلم استهزاء‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ «أنا من الذين أُوتوا العلم، وقد سُئلت فيمن سُئل»‏.‏ ويقال‏:‏ الناس ثلاثة‏:‏ سامع عامل، وسامع غافل، وسامع تارك‏.‏

‏{‏أولئك الذين طبع اللّهُ على قلوبهم‏}‏ لعدم توجهها إلى الخير أصلاً، ‏{‏واتبعوا أهواءهم‏}‏ الباطلة، فلذلك فعلوا ما فعلوا، مما لا خير فيه، ‏{‏والذين اهتدوا‏}‏ إلى طريق الحق ‏{‏زادهم‏}‏ الله بذلك ‏{‏هُدىً‏}‏ علماً وبصيرة، أو شرْح صدر بالتوفيق والإلهام، أو‏:‏ زادهم ما سمعوا من الرسول صلى الله عليه وسلم هدايةً على ما عندهم، ‏{‏وآتاهم تقواهم‏}‏ أعانهم عليها، أو‏:‏ آتاهم جزاء تقواهم، أو‏:‏ بيَّن لهم ما يتقون‏.‏

‏{‏فهل ينظرون‏}‏ أي‏:‏ ما ينتظرون ‏{‏إِلا الساعةَ أن تأتيهم بغتةً‏}‏ أي‏:‏ تُباغِتهم بغتةً، وهي الفجاءة، والمعنى‏:‏ أنهم لا يتذكرون بأحوال الأمم الخالية، ولا بالإخبار بإتيان الساعة، وما فيها من عظائم الأهوال، وما ينظرون إلا إتيان نفس الساعة بغتة، ‏{‏فقد جاء أشراطُها‏}‏ علاماتهان جمع‏:‏ شَرَط بالتحريك، بمعنى‏:‏ العلامة، وهي مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وانشقاق القمر، والدخان، على قول‏.‏ وقيل‏:‏ قطع الأرحام، وقلة الكِرام، وكثر اللئام، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقد جاء أشراطها‏}‏ تعليل لمفاجأتها، لا لمطلق إتيانها، على معنى‏:‏ أنه لم يبقَ من الأمور الموجبة للتذكير أمر مترقب ينتظرونه سوى إتيان نفس الساعة إذ قد جاء أشراطها، فلم يرفعوا لها رأساً، ولم يعدوها من مبادئ إتيانها؛ فيكون إتيانها بطريق المفاجأة لا محالة‏.‏

‏{‏فأنَّى لهم إِذا جاءتهم ذِكراهم‏}‏ قال الأخفش‏:‏ التقدير‏:‏ فأنَّى لهم ذكراهم إذا جاءتهم، أي‏:‏ فمن أين لهم التذكير والاتعاظ إذا جاءتهم الساعة‏؟‏ ف «ذكراهم»‏:‏ مبتدأ، و«أنَّى»‏:‏ خبر مقدم، و«إذا جاءتهم»‏:‏ اعتراض، وسط بينهما، رمز إلى غاية سرعة مجيئها، والمقصود‏:‏ عدم نفع التذكير عند مجيئها، كقوله تعالى‏:‏

‏{‏يَوْمَئِذ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 23‏]‏‏.‏

الإشارة‏:‏ مجلس الوعظ والتذكير، إن كان المذكِّر من أهل التنوير، نهض المستمع له إلى الله قطعاً، لكن ذلك يتفاوت على قدر سريان النور فيه قطعاً، فمنهم مَن يصل النور إلى ظاهر قلبه، ومنهم مَن يصل إلى داخل القلب، ومنهم مَن يصل إلى روحه، ومنهم مَن يصل إلى سره، وذلك على قدر التفرُّع والاستعداد، فمَن وصل النورُ إلى ظاهر قلبه نهض إلى العمل الظاهر، وكان بين حب الدنيا والآخرة، ومَن وصل إلى قلبه نهض بقلبه إلى الله، ورفض الدنيا وراءه، ومَن وصل إلى روحه انكشف عنه الحجاب، ومَن وصل إلى سره تمكن من شهود الحق‏.‏

وفي الحِكَم‏:‏ «تسبق أنوارُ الحكماء أقوالَهم، فحيثما سار التنويرُ وصل التعبير»، وهذا إن حضر مستفيداً، وأما إن حضر منتقداً، فهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومنهم من يستمع إليك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، والذين اهتدوا لدخول طريق التربية زادهم هُدىً، فلا يزالون يزيدون تربيةً وترقيةً إلى أن يصلوا إلى مقام التمكين من الشهود‏.‏ قال القشيري‏:‏ والذين اهتدوا بأنواع المجاهدات زادهم هُدىً لأنوار المشاهداتْ، واهتدوا بتأمُّل البرهان، فزادهم هُدىً برَوْح البيان، أو اهتدوا بعلم اليقين، فزادهم هُدىً بحق اليقين‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ‏(‏19‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فاعلم أنه لا إِله إِلا اللّهُ‏}‏ أي‏:‏ إذا علمت أن مدار السعادة، والفوز بالنعيم في دار البقاء هو التوحيد والطاعة، ومناط الشقاء والخسران في دار الهوان هو الإشراكُ والعصيان، فاثبت على ما أنت عليه من التوحيد، واعلم أنه لا إله في الوجود إلا الله، فلا يستحق العبادة غيره، ‏{‏واستغفر لذنبك‏}‏ وهو ما قد يصدر منه صلى الله عليه وسلم من خلاف الأولى، عبّر عنه بالذنب نظراً إلى منصبه الجليل، كيف لا، وحسنات الأبرار سيئات المقربين‏؟‏ فكل مقام له آداب، فإذا أخلّ بشيء من آدابه أُمر بالاستغفار، فلمقام الرسالة آداب، ولمقام الولاية آداب، ولمقام الصلاة آداب، وضعفُ العبودية لا يقوم بجميع حقوق الربوبية، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا قٌدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 67‏]‏‏.‏ وبالجملة فالقيام بالآداب مع الله- تعالى- على ما يستحقه- سبحانه- حتى يُحيط العبد بجميع الآداب مع عظمة الربوبية محال عادة، قال صلى الله عليه وسلم مع جلالة منصبه‏:‏ «لا أُحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» فكل ما قَرُبَ العبدُ من الحضرة شُدّد عليه في طلب الأدب، فإذا أخذته سِنةٌ أُمر بالاستغفار، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يستغفر في المجلس سبعين مرة، أو مائة، على ما في الأثر‏.‏

وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي، بعد كلام‏:‏ والحق أن استغفاره صلى الله عليه وسلم طلب ثبات المغفرة والستر من الوقوع، لا طلب العفو بعد الوقوع، وقد أخبره تعالى بأنه فعل‏.‏ وقد يُقال‏:‏ استغفار تعبُّد لا غير‏.‏ قال‏:‏ والذي يظهر لي أن أمره بالاستغفار مع وعد الله بأنه مغفور له؛ إشارة إلى الوقوف مع غيب المشيئة، لا مع الوعد، وذلك حقيقةٌ، والوقوف مع الوعد شريعة‏.‏ وقال الطيبي‏:‏ إذا تيقنت أن الساعة آتية، وقد جاء أشراطها، فخُذ بالأهم فالأهم، والأَولى فالأَولى، فتمسّك بالتوحيد، ونزِّه اللّهَ عما لا ينبغي، ثم طَهِّر نفسك بالاستغفار عما لا يليق بك، مِن ترك الأَولى، فإذا صِرت كاملاً في نفسك فكن مكمِلاً لغيرك، فاستغفر ‏{‏للمؤمنين والمؤمنات‏}‏‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ استغفر لذنوبهم بالدعاء لهم، وترغيبهم فيما يستدعي غفران ذنوبهم‏.‏

وفي إعادة الجار تنبيه على اختلاف معلّقيْه؛ إذ ليس موجبُ استغفاره صلى الله عليه وسلم كموجب استغفارهم، فسيئاته- عليه السلام- فرضاً حسناتهم‏.‏ وفي حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه- أي‏:‏ ولذنب المؤمنين- إشعار بعراقتهم في الذنوب، وفرط افتقارهم إلى الاستغفار‏.‏

‏{‏واللّهُ يعلم متقلَّبكم ومثواكم‏}‏ أي‏:‏ يعلم متقلبكم في الدنيا، فإنها مراحل لا بد من قطعه، ويعلم مثواكم في العقبى؛ فإنها مواطن إقامتكم، فلا يأمركم إلا بما هو خير لكم فيهما، فبادِروا إلى الامتثال لما أمركم به، فإنه المهم لكم، أو‏:‏ يعلم متقلبكم‏:‏ في معايشكم ومتاجركم، ومثواكم‏:‏ حيث تستقروا في منازلكم، أو متقلبكم‏:‏ في حياتكم، ومثواكم‏:‏ في القبور، أو‏:‏ متقلبكم‏:‏ في أعمالكم الحسنة أو السيئة، ومثواكم‏:‏ من الجنة أو النار، أو‏:‏ يعلم جميع أحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها، فمثله حقيق بأن يُخشى ويُتقى ويُستغفر‏.‏

الإشارة‏:‏ قال القشيري‏:‏ قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏فاعلم أنه لا إِله إلا الله‏}‏ وكان عالماً، ولكن أمره باستدامة العلم واستزادته، وذلك في الثاني من حاله في ابتداء العلم، لأن العلم أمر، ولا يجوز البقاء على الأمر الواحد، فكل لحظة يأتي فيها علم‏.‏ ويقال‏:‏ كان له علم اليقين، فأُمِر بعين اليقين، فأُمِر بعين اليقين، أو‏:‏ كان له عيه اليقين، فأُمر بحق اليقين‏.‏ ويقال‏:‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنا أعملكم بالله وأخشاكم له» فنزلت الآية، أي‏:‏ أُمر بالتواضع‏.‏ وهنا سؤال‏:‏ كيف قال‏:‏ «فاعلم» ولم يقل صلى الله عليه وسلم بعدُ‏:‏ علمتُ، كما قال إبراهيم حين قال له‏:‏ ‏{‏أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 131‏]‏ ويُجاب‏:‏ بأن الله تعالى أخبر عنه بقوله‏:‏ ‏{‏ءَامَنَ الرَّسُولُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 285‏]‏ والإيمان هو العلم، فإخبارُ الحق تعالى عنه أتم من إخباره عن نفسه بقوله‏:‏ علمته‏.‏

ويُقال‏:‏ إبراهيم عليه السلام لما قال‏:‏ ‏{‏أسلمتُ‏}‏ ابتلي، ونبينا صلى الله عليه وسلم لم يقل علمت، فعُوفي، ويقال‏:‏ فرق بين موسى، لمَّا احتاج إلى زيادة العلم أُحيل على الخضر، ونبينا صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏{‏وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 114‏]‏ فكم بين مَن أُحيل في استزادة العلم على عبد، وبين مَن أُمِر باستزادة العلم من الحق‏.‏ ويقال‏:‏ إنما أمره بقوله‏:‏ ‏{‏فاعلم‏}‏ بالانقطاع إليه من الحظوظ من الخلق، ثم بالانقطاع منه إليه، وإذا قال العبد هذه الكلمة على العادة، والغفلة عن الحقيقة، وهي نصف البيان؛ فليس لهذا القول كبيرُ قيمةٍ، وهذا إذا تعجب من شيء فذكر هذه الكلمة، فليس له قَدْرٌ، وإذا قاله مخلصاً ذاكراً لمعناها، متحققاً بحقيقتها، فإن قاله بنفسه فهو في وطن التفرقة، وعندهم هذا من الشِّرْكِ الخفيِّ، وإن قاله بالحق فهو إخلاص، والعبد أولاً يعلم ربه بدليل وحُجةٍ، فعلمه بنفسه ضروري، وهو أصل الأصول، وعليه ينبني كل علم استدلالي‏.‏ ثم تزداد قوةُ علمه بزيادة البيان، وزيادة الحُجج، ويتناقض علمه بنفسه لغَلَبة ذكرِ الله بقلبه عليه، فإذا انتهى لحال المشاهدة، واستيلاء سلطان الحقيقة عليه، صار علمه في تلك الحالة ضرورياً، ويقِل إحساسه بنفسه، حتى يصير علمه بنفسه كالاستدلال، وكأنه غافلٌ عن نفسه، أو ناسٍ لنفسه، ويُقال‏:‏ الذي في البحر غلب عليه ما يأخذه من الرؤية عن ذكر نفسه، فإذا ركب البحر فرَّ من هذه الحالة، فإذا غرق في البحر فلا إحساس له بشيء سوى ما هو مستغرقٌ فيه مستهلَك‏.‏

ه‏.‏

قلت‏:‏ لا مدخل للحجج هنا، وإنما هو أذواق وكشوفات، فالصواب أن يقول‏:‏ ثم تزداد قوة علمه، بزيادة الكشف والذوق، حتى يغيب عن وجوده، بشهود معبوده، فيتناقض علمه، فيصير علمه بالله ضرورياً، وعلمه بعدم وجوده ضرورياً، والله تعالى أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستغفر لذنبك‏}‏ قال الورتجبي عن الجنيد‏:‏ أي‏:‏ اعلم حقيقة أنك بنا ولنا وبنا، عَلِمتنا، وإياك أن ترى نفسَك في ذلك، فإن خطر بك خاطر غَيْرٍ، فاستغفر من خاطرك، فلا ذنب ولا خطب أعظم ممن رجع عنا إلى سوانا، ولو في خطرة ونفَس، ثم قال عن الأستاذ القشيري‏:‏ إذا علمت أنك علمته فاستغفر لذنبك من هذا؛ فإن الحق علا جلال قدره أن يعلمه غيره‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ وحاصله‏:‏ أنَّ استغفاره صلى الله عليه وسلم ما عسى أن يخطر بباله رؤية وجوده، كما قال الشاعر‏:‏

وجُودك ذَنْبٌ لاَ يُقَاسُ بِه ذَنْبُ *** فَلاَ وُجوُدَ لِلْغَيْرِ مَعَهُ أَصْلاً، فهو الذي عَرف نفسه بنفسه، ووحّد نفسه بنفسه، وقدّس نفسه بنفسه، وعظّم نفسه بنفسه، كما قال الهروي رضي الله عنه حين سُئل عن التوحيد الخاص‏:‏

مَا وَحَّدَ الْوَاحِدَ مِنْ وَاحد *** إِذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ

تَوحِيدُ مَنْ يَنْطِق عَنْ نَعْتِه *** عَارِيَةٌ أَبْطَلَها الْوَاحِدُ

تَوْحِيدُه إِيّاه توحِيدُه *** وَنَعْتُ مَنْ يَنْعَتُه لأحِدْ

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 24‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ‏(‏20‏)‏ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ‏(‏21‏)‏ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ‏(‏22‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ‏(‏23‏)‏ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ‏(‏24‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ويقول الذين آمنوا لولا نُزَّلت سورةٌ‏}‏ فيها ذِكر الجهاد، وذلك أنَّ المؤمنين كان حرصُهم على الجهاد يبعثهم على تمني ظهور الإسلام، وتمني قتال العدو، فكانوا يأنسوا بالوحي، ويستوحشون إذا أبطأ، وكان المنافقون على العكس من ذلك، ‏{‏فإِذا أُنزلت سورةٌ‏}‏ في معنى الجهاد ‏{‏محكمةٌ‏}‏ أي‏:‏ مبيّنة غير متشابهة، لا تحتمل وجهاً إلا وجوب الجهاد‏.‏ وعن قتادة‏:‏ كل سورة فيها ذِكْر القتال فهي محكمة؛ لأن النسخ لا يَردُّ عليها؛ لأن القتال نسَخَ ما كان قبلُ من الصلح والمهادنة، وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وذُكِر فيها القتالُ‏}‏ أي‏:‏ أُمر فيها بالجهاد ‏{‏رأيتَ الذين في قلوبهم مرض‏}‏ نفاق، أي‏:‏ رأيت المنافقين فيما بينهم يضجرون منها، ‏{‏ينظرون إِليك نظرَ المغشيِّ عليه من الموت‏}‏ أي‏:‏ تشخص أبصارُهم جُبناً وجَزعاً؛ كما ينظر مَن أصابته الغشيةُ عند الموت‏.‏

قال القشيري‏:‏ كان المسلمون تضيق صدورُهم لتأخر الوحي، وكانوا يتمنون أن ينزل الوحيُ بسرعةٍ، والمنافقون إذا ذُكر القتال يكرهون ذلك؛ لما كان يشُق عليهم القتال، فكانوا بذلك يفتضحون وينظرون إليه نظر المغشيِّ عليه من الموت؛ أي‏:‏ بغاية الكراهة لذلك، ‏{‏فأَوْلَى لهم‏}‏ تهديد، أي‏:‏ الوعيد لهم ه‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ فويل لهم، وهو أفعل، من‏:‏ الوَلْي، وهو القرب، والمعنى‏:‏ الدعاءُ عليهم بأن يليَهم المكروه، ويقربَ من ساحتِهم، وقيل‏:‏ أصله‏:‏ أَوْيَل، فقُلب، فوزنه‏:‏ أفلَع، قال الثعلبي‏:‏ يقال لمَن همّ بالعطَب ثم أفلت‏:‏ أولى لك، أي‏:‏ قاربت العطَب‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏طاعةٌ وقولٌ معروف‏}‏ استئناف، أي‏:‏ طاعة لله وللرسول، وقولٌ معروف حسن خيرٌ لهم، أو‏:‏ يكون حكايةَ قولِ المنافقين، أي‏:‏ قالوا‏:‏ أَمْرُنا طاعة وقول معروفٌ، قالوه نفاقاً، فيكون خبراً عن مضمر، وقيل‏:‏ «أَوْلَى»‏:‏ مبتدأ، و«طاعة»‏:‏ خبره، وهذا أحسن، وهو المشهور من استعمال «أَوْلى» بمعنى‏:‏ أحق وأصوب، أي‏:‏ فالطاعة والقول المعروف أَوْلى لهم وأصوب‏.‏

‏{‏فإِذا عَزَمَ الأمرُ‏}‏ أي‏:‏ فإذا جدّ الأمر ولزمهم القتال ‏{‏فَلَوْ صَدَقوا اللّهَ‏}‏ في الإيمان والطاعة ‏{‏لكان‏}‏ الصدق ‏{‏خيراً لهم‏}‏ من كراهة الجهاد، وقيل‏:‏ جواب «إذا» وهو العامل فيها- محذوف، أي‏:‏ فإذا عزم الأمرُ خالفوا أو تخلّفوا، أو نافقوا، أو كرهوا‏.‏

‏{‏فهل عسيتم إِن توليتم أن تُفسداو في الأرض وتقطِّعوا أرحامكم‏}‏ أي‏:‏ فلعلكم إن أعرضتم عن دين الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض، بالتغاور والتناهب، وقطع الأرحام، بمقاتلة بعض الأقارب بعضاً، أو‏:‏ فهل عسيتم إن توليتم أمور الناس وتأمّرتم عليهم أن تُفسدوا في الأرض، تَفاخراً على الملك، وتهالكاً على الدنيا، فإن أحوالكم شاهدة بذلك من خراب الدين، والحرص على الدنيا‏.‏

قال في الحاشية الفاسية‏:‏ والأشهر أنه من الولاية، أي‏:‏ إن وُليتم الحكم، وقد جاء حديث أنهم قريش؛ أخذ الله عليهم إن وُلوا أمر الناس ألا يُفسدوا، ولا يَقطعوا الأرحام، قاله ابن حجر‏.‏ ه‏.‏

وخبر «عسى»‏:‏ «أن تُفسدوا» والشرط اعتراض بين الاسم والخبر، والتقدير‏:‏ فهل عسيتم أن تُفسدوا في الأرض إن توليتم‏.‏ تقول‏:‏ عسى يا فلان إن فعلت كذا أن يكون كذا، فهل عسيتَ أنت ذلك، أي‏:‏ فهل توقعت ذلك‏؟‏ ‏{‏أولئك‏}‏ المذكورون، فالإشارة إلى المخاطبين، إيذاناً بأن ذكر مساوئهم أوجبَ إسقاطَهم عن رتبة الخطاب، وحكاية أحوالهم الفظيعة لغيرهم، وهو مبتدأ، وخبره‏:‏ ‏{‏الذين لعنهم اللّهُ‏}‏ أبعدهم عن رحمته، ‏{‏فأصَمَّهم‏}‏ عن استماع الحق والموعظة لتصاممهم عنه بسوء اختيارهم، ‏{‏وأعمى أبصارهم‏}‏ لتعاميهم عما يُشاهدونه من الآيات المنصوبة في الأنفُس والآفاق‏.‏

‏{‏أفلا يتدبرون القرآن‏}‏ فيعرفون ما فيه من المواعظ والزواجر، حتى لا يقعوا فيما وقعوا فيه من الموبقات، ‏{‏أم على قلوبٍ أقفالها‏}‏ فلا يصل إليها وعظ أصلاً، و«أم» منقطعة، وما فيها من معنى «بل» للانتقال من التوبيخ على عدم التدبُّر إلى الوبيخ بكون قلوبهم مُقفلة، لا تقبل التدبُّر والتفكُّر، والهمزة للتقرير‏.‏ وتنكير «قلوب»، إما لتهويل حالها، وتفظيع شأنها، بإبهام أمرها في الفساد والجهالة، كأنه قيل‏:‏ قلوب منكرة لا يُعرف حالها، ولا يُقادر قدرُها في القسوة، إما لأنّ المراد بها قلوبُ بعض منهم، وهم المنافقون، وإضافة الأقفال إليها للدلالة على أنها مخصوصة بها، مناسبة لها، غير مجانسة لسائر الأفعال المعهودة‏.‏

قال القشيري‏:‏ إذا تدبروا القرآنَ أفضى بهم إلى حس العرفان، وأزاحهم عن ظلمة التحيرُّ ‏{‏أم على قلوب أقفالها‏}‏ أقفَل الحقُّ على قلوب الكفار، فلا يدخلها زواجر التنبيه، ولا تنبسط عليها شعاعُ العلم، ولا يحصل فيهم الخطابُ، والبابُ إذا كان مُقفلاً، فكما لا يدخل فيه شيء لا يخرج ما فيه، كذلك هي قلوب الكفار مقفلة؛ فلا الكفر الذي فيها يخرج، ولا الإيمان الذي يدعَوْن إليه يدخل في قلوبهم‏.‏ ه‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ هو الران الذي منعهم من الإيمان، ثم ذكر حكاية الشاب، وذلك أن وفْد اليمن قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم شاب، فقرأ عليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فقال الشابُّ‏:‏ عليها أقفالها حتى يفتحها الله ويُفْرجَها، قال عمر‏:‏ فعَظُم في عيني، فما زالت في نفس عمر رضي الله عنه حتى وُلّي الخلافة، فاستعان بذلك الفتى‏.‏ ه‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له قُفل قلبه، وجعل فيه اليقين»‏.‏

الإشارة‏:‏ أهل التوجُّه والرياضة يفرحون بما ينزل بهم، مما يثقل على نفوسهم، كالفاقات والأزمات، وتسليط الخلق عليهم، وغير ذلك من النوائب؛ لتموت نفوسهم؛ فتحيا قلوبهم وأرواحهم بمعرفة الله، والذين في قلوبهم مرض كالوساوس والخواطر يفرُّون من ذلك، وينظرون- حين يرون أمارات ذلك- نظر المغشي عليه من الموت، فالأَوْلى لهم الخضوع تحت مجاري الأقدار، والرضا والتسليم لأحكام الواحد القهار، فإذا عزم الأمرُ بالتوجه إلى جهاد النفس، أو بالسفر إلى مَن يُداويها، فلو صدقوا في الطلب، وتوجّهوا للطبيب، لكان خيراً لهم‏.‏

فهل عسيتم إن توليتم وأعرضتم عن ذلك، ولم تُسافروا إلى الطبيب، أن تُفسدوا في الأرض بالمعاصي والغفلة، وتُقطعوا أرحامكم، إذا لا يصل رحِمَه حقيقةً إلا مَن صفا قلبه، ودخله الخوف والهيبة، أولئك الذي أبعدهم اللّهُ عن حضرتِه، فأصمَّهم عن سماع الداعي إلى الله، وأعمى أبصارهم عن رؤية خصوصيته، وأنوار معرفته، أفلا يتدبرون القرآن، فإنَّ فيه علومَ الظاهر والباطن، لكن إذا زالت عن القلوب الأقفال، وحاصلها أربعة‏:‏ حب الدنيا، وحب الرئاسة، والانهماك في الحظوظ والشهوات، وكثرة العلائق والشواغل، فإن سَلِمَ من هذه صفا قلبُه، وتجلّت فيه أسرارُ معاني الذات والصفات، فيتدبّر القرآن، ويغوص في بحر أسراره، ويستخرج يواقيتَه ودرره‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 30‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ‏(‏25‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ‏(‏26‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ‏(‏27‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏28‏)‏ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ‏(‏29‏)‏ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ‏(‏30‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين ارتَدُّوا على أدبارهم‏}‏ أي‏:‏ رجعوا إلا الكفر، وهم المنافقون، الذين وُصفوا قبلُ بمرض القلوب، وغيره، من قبائح الأفعال والأحوال، فإنهم كفروا به صلى الله عليه وسلم ‏{‏من بعد ما تبيّن لهم الهُدى‏}‏ بالدلائل الظاهرة، والمعجزات القاهرة‏.‏ وقيل‏:‏ اليهود، وقيل‏:‏ أهل الكتابيْن جميعاً، كفروا به صلى الله عليه وسلم بعدما وجدوا نعته في كتابهم، وعرفوا أنه المنعوت بذلك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الشيطانُ سوَّل لهم‏}‏ الجملة‏:‏ خبر «إن» أي‏:‏ الشيطان زيَّن لهم ذلك، أو‏:‏ سهَّل لهم ركوب العظائم، من‏:‏ السّول، وهو الاسترخاء، أي‏:‏ أَرْخى العنانَ لهم، حتى جرَّهم إلى مراده، ‏{‏وأَمْلَى لهم‏}‏ ومدَّ لهم في الآمال والأماني، وقرأ البصري‏:‏ «وأُمْليَ» بالبناء للمفعول، أي‏:‏ أُمهلوا ومُدَّ في عُمرهم‏.‏

‏{‏ذلك بأنهم قالوا للذين كَرِهوا ما نزّل اللّهُ‏}‏ الإشارة إلى ما ذُكر من ارتدادِهم، لا إلى الإملاء، ولا إلى التسويل- كما قيل- إذ ليس شيئاً منهما سبباً في القول الآتي؛ أي‏:‏ ذلك الارتداد بسبب أنهم- أي المنافقون- قالوا لليهود الذين كرهوا ما نَزَّل الله من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما علموا أنه من عند الله حسداً وطمعاً في نزوله عليهم‏:‏ ‏{‏سنُطيعكم في بعض الأمر‏}‏ أي‏:‏ عداوة محمد والقعود عن نصْرِ دينه، أو‏:‏ في نصرهم والدفع عنهم إن نزل بهم شيء، من قِبَلهِ عليه السلام، وهو الذي حكاه عنهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 11‏]‏ الآية وهم بنو قريظة والنضير، الذين كانوا يُوالونهم ويُوادونهم، وإنما كانوا يقولون لهم ذلك سرّاً، كما ينبئ عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله يعلم أسرارهم‏}‏ أي‏:‏ جميع أسرارهم التي من جملتها‏:‏ قولهم هذا، وقرأ الأخوان وحفص بكسر الهمزة مصدر، أي‏:‏ إخفاءَهم لما يقولون لليهود‏.‏

‏{‏فكيف‏}‏ تكون حيلتهم وما يصنعون ‏{‏إِذا توفتهم الملائكةُ‏}‏ حال كونهم ‏{‏يضربون وجوهَهم وأدبارَهم‏}‏ وهو تصوير لحال توفيهم على أَهْولَ الوجوه وأفظعها‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ «لا يتوفى أحدٌ على معصية إلا تضرب الملائكة وجهَهُ ودُبره»‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ التوفِّي الهائل ‏{‏بأنهم‏}‏ بسبب أنهم ‏{‏اتبعوا ما أسخط اللّهَ‏}‏ من الكفر والمعاصي ومعاونة الكفرة، ‏{‏وكَرِهُوا رضوانه‏}‏ من الطاعة والإيمان ونصر المؤمنين، ‏{‏فأَحْبَط‏}‏ لأجل ذلك ‏{‏أعمالَهم‏}‏ التي عمِلوها حال الإيمان وبعد الارتداد، من أعمال البر‏.‏

‏{‏أَمْ حَسِبَ الذين في قلوبهم مرضٌ‏}‏ هم المنافقون الذين فصلت أحوالهم الشينعة، ‏{‏أن لن يُخرج اللّهُ أضغانهم‏}‏ أحقادهم، ف «أَمْ» منقطعة، و«أن» مخففة، واسمها‏:‏ ضمير الشأن، أي‏:‏ أظن المنافقون الذين في قلوبهم حِقد وعداوة أنه لن يُخرج اللّهُ أحقادهم، ولن يُبرزَها لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فيبقي أمورَهم مستورة‏؟‏ بل لا يكاد يدخل ذلك تحت الاحتمال‏.‏

‏{‏ولو نشاء لأريناكهم‏}‏ ودللناك عليهم بأمارات، حتى تعرفهم بأعينهم، معرفةً مزاحِمةً للرؤية‏.‏ والالتفات لنون العظمة لإبراز العناية بالإرادة، وفي مسند أحمد، عن ابن مسعود‏:‏ خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال‏:‏ «إن منكم منافقين، فمَن سميتُ فليقم، ثم قال‏:‏ قم يا فلان، حتى سمّى ستة وثلاثين» انظر الطيبي‏.‏ ‏{‏فَلعَرفتَهم بسِيماهم‏}‏ بعلامتهم التي نَسِمُهم بها، وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ ما خَفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من المنافقين؛ كان يعرفهم بسيماهم، ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين، يشْكُرهم الناس؛ فناموا، فأصبح على وجه كل واحد منهم مكتوب‏:‏ هذا منافق «قال ابن زيد‏:‏ قصد الله إظهارَهم، وأمرَهم أن يخرجوا من المسجد، فأبوا إلا أن يتمسّكوا بلا إله إلا الله، فحُقِنت دماءهم، ونَكحوا ونُكح منهم بها‏.‏

‏{‏ولَتعرِفَنَّهم‏}‏ أي‏:‏ والله لتعرفنهم ‏{‏في لحن القول‏}‏ أي‏:‏ مجراه وأسلوبه وإمالته عن الاعتدال؛ لما فيه من التذويق والتشديق، وقد كانت ألسنتهم حادة، وقلوبهم خاربة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 204‏]‏ الآية، مَن في قلبه شيءٌ لا بد أن يظهر على لسانه، كما قيل‏:‏» ما كمَن فيك ظَهَرَ على فِيك «‏.‏ وهذه الجُمل كلها داخِلة تحت» لَوْ «معلقةً بالمشيئة، واللحن يُطلق على وجهين‏:‏ صواب وخطأ، فالفعل من الصواب‏:‏ لَحِنَ يلْحَنُ لَحْناً، كفرِح، فهو لَحِنٌ، إذا فطنَ للشيء، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏» ولعل بعضَكم أن يكون ألحن بحجته من بعض «أي‏:‏ لقُوتهِ على تصريف الكلام‏.‏ والفعلُ من الخطأ‏:‏ لَحَنَ يلحَنُ لحْناً، كجعل، فهو لاَحِنٌ إذا أخطأ، والأصل فيه‏:‏ إزالة الكلام عن جهته، مأخوذ من‏:‏ اللحن، وهو ضد الإعراب، وهو الذهاب عن الصواب في الكلام‏.‏ ‏{‏والله يعلم أعمالَكم‏}‏ فيُجازيكم بحسب قصدكم؛ إذا الأعمال بالنيات، وهذا وعد للمؤمنين، وإيذانٌ بأن حالهم بخلاف حال المنافقين، أو‏:‏ يعلم جميع أعمال العباد، فيميزُ خيرَها من شرها‏.‏

الإشارة‏:‏ ‏{‏إن الذين ارتدوا على أدبارهم‏}‏ أي‏:‏ رَجعوا عن صحبة المشايخ، بعدما ظهر لهم أسرارُ خصوصيتهم؛ الشيطانُ سوَّل لهم وأَمْلَى لهم، وتقدّم عن القشيري‏:‏ أنه يتخلّف عنهم يوم القيامة، ولا يلحق بالمقربين، ولو يشفع فيه ألفُ عارف، بل من كمال المكر به أن يُلقي شَبَهَه في الآخرة على غيره، حتى يتوهم عارفوه من أهل المعرفة أنه هو، فلا يشفع أحد فيه؛ لظنهم أنه معهم، فإذا ارتفعوا إلى عليين مُحيت صورته، ورُفع إلى مقام العامة، انظر معناه في آل عمران‏.‏

وقال هنا‏:‏ الذي طلع فَجرُ قلبه وتلألأ نورُ التوحيد فيه، ثم ارتدّ قبل طلوع نهار إيمانه؛ انكسفَ شمسُ يومه، وأظلم نهارُ عرفانه، ودَجا ليل شَكِّه، وغابت نجومُ عقله، فحدَّث عن ظلماتهم ولا حرج‏.‏

ه‏.‏ ولا سيما إذا تحزّب مع العامة في الإذايَة، وقال للذين كرهوا ما نَزّل الله على أهل الخصوصية من الأسرار‏:‏ سنُطيعكم في بعض الأمر من إذايتهم، والله يعلم أسرارهم، وباقي الوعيد الذي في الآية ربما يشملهم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم حسب الذين في قلوبهم مرض‏}‏ أي‏:‏ عداوةٌ لأولياء الله أن لن يُخرج اللّهُ أضغانهم‏؟‏ بل يُخرجها ويُظهر وبالها، ويفتضحون ولو بعد حين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتعرفنهم في لحن القول‏}‏ في قوة الخطاب، ومفهوم الكلام؛ لأن الأسِرَّة تدلُّ على السريرة، وما خامر القلوبَ فعلى الوجوه يلوحُ، وأنشدوا في المعنى‏:‏

لَستُ مَنْ لَيْس يَدْرِي مَا هوانٌ مِن كَرَامه *** إِنَّ لِلْحُبِّ وَلِلْبَغْضِ عَلَى الْوَجْهِ عَلاَمه

المؤمن ينظر بنور الفراسة، والعارفُ ينظر بعين التحقيق، والموحِّدُ ينظر بالله، ولا يستتر عليه شيء‏.‏ ه‏.‏ من القشيري‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ‏(‏31‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏32‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولَنبلونَّكم‏}‏ أي‏:‏ والله لَنختبرنَّكم بالأمر بالجهاد، ونحوه من التكاليف الشاقة، أي‏:‏ نعاملكم معاملة المختبر؛ ليكون أبلغ في أظهار العدل، ‏{‏حتى نعلمَ المجاهدين منكم والصابرين‏}‏ على مشاق الجهاد والتكاليف، عِلماً ظاهراً، يتعلق به الجزاء بعد تعلُّق العلم به في الأزل، ‏{‏ونبلوَ أخبارَكم‏}‏ أي‏:‏ ونختبر أسراركم بإظهار ما فيها من خير أو شر، بالنهوض أو التخلُّف، وقيل‏:‏ أراد بأخباركم‏:‏ أعمالكم، عبّر بالأخبار عن الأعمال على سبيل الكناية؛ لأن الإخبار تابع لوجود المخبر عنه، إن كان الخبر حسناً كان المخبر عنه- وهو العمل- حسناً، وإن كان الخبر قبيحاً فالمخبَر عنه قبيح‏.‏ ه‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين كفروا وصَدُّوا‏}‏ الناس ‏{‏عن سبيل الله وشاقُوا الرسولَ‏}‏ أي‏:‏ عادوه ‏{‏من بعد ما تبيّن لهم الهدى‏}‏ بما شاهدوا من نعته في التوراة، وبما ظهر على يديه من المعجزات، ونزل من الآيات، وهم بنو قريظة والنضير، أو‏:‏ المطعمون يوم بدر من رؤساء قريش، ‏{‏لن يضروا‏}‏ بكفرهم وصدهم ‏{‏اللّهَ شيئاً‏}‏ من الأشياء، أو‏:‏ شيئاً من الصد، أو‏:‏ لن يضرُّوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بمشاقته، وقد حذف المضاف؛ لتعظيم شأنه وتعظيم مشاقته‏.‏ ‏{‏وسيُحبط أعمالَهم‏}‏ أي‏:‏ مكائدهم التي نصبوها في إبطال دينه تعالى، ومشاقة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يصلون بها إلى ما كانوا يبغون من الغوائل، ولا يُثمرُ لهم إلا القتل والجلاء عن أوطانهم‏.‏

الإشارة‏:‏ قال القشيري‏:‏ في الابتلاء والامتحان يتبينُ جواهرُ الرجال، فيظهر المخلصُ، ويفتضح الممارق، وينكشف المنافق‏.‏ ه‏.‏ وكان الفُضيل إذا قرأ هذه الآية بكى، وقال‏:‏ اللهم لا تبلُنا؛ فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا‏.‏ ه‏.‏ ويبغي أن يزيد‏:‏ وإن بلوتنا فأيّدنا، وبالله التوفيق‏.‏ إن الذين جحدوا وصدُّوا الناس عن طريق الوصول، وخرجوا عن مناهج السنّة، لن يضرُّوا الله شيئاً؛ فإن لله رجالاً يقومون بالدعوة، لا يضرهم مَن عاداهم، حتى يأتي أمر الله، وسيُحبط أعمالَ الصادّين المعوِّقين، فلا ينهضون إلى الله نهوض الرجال، بشؤم انتقادهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 38‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ‏(‏33‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ‏(‏34‏)‏ فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ‏(‏35‏)‏ إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ‏(‏36‏)‏ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ‏(‏37‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ‏(‏38‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللّهَ‏}‏ فيما يأمركم به من الجهاد وغيره ‏{‏وأطيعوا الرسولَ‏}‏ فيما سنَّه لكم، ‏{‏ولا تُبطلوا أعمالَكم‏}‏ بما أبطل به هؤلاء أعمالهم من الكفر والنفاق، وغير ذلك من مفسدات الأعمال، كالعجب والرياء، والمن والأذى، وليس فيه دليل على إحباط الطاعات بالكبائر، خلافاً للمعتزلة، أو‏:‏ لا تبطلوا أعمالكم بأن تقطعوها قبل تمامها‏.‏ وبها احتجَ الفقهاء على وجوب إتمام العمل؛ فأوجبوا على مَن شَرَعَ في نافلة إتمامها، وأخذُه عن الآية ضعيف؛ لأن السياق إنما هو في إحباط العمل بالكفر، لقوله قبلُ‏:‏ ‏{‏وسيُحبط أعمالهم‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ لا تكونوا كهؤلاء الذين أحبط الله أعمالهم؛ بكفرهم وصدهم عن سبيل الله، ومشاقتهم الرسولَ، ويؤيده أيضاً‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن الذين كفروا وصَدُّوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر اللّهُ لهم‏}‏ هذا عام في كل مَن مات على الكفر، وإن صحّ نزوله في أهل القليب‏.‏

‏{‏فلا تَهِنُوا‏}‏ لا تضعفوا عن الجهاد ‏{‏وتدعوا إِلى السَّلْم‏}‏ أي‏:‏ لا تدعوا الكفار إلى الصلح والمسالمة؛ فإن ذلك إعطاء الدنِيَّة- أي‏:‏ الذلة- في الدين، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار «أن» في جواب النهي؛ أي‏:‏ لا تهنوا مع إعطاء السلم، ‏{‏وأنتم الأَعْلَون‏}‏ الأغلبون، ‏{‏واللّهُ معكم‏}‏ بالنصر والمعونة، ومَن كان غالباً ومنصوراً والله معه، لا يتصور منه إظهار الذلة والضراعة لعدوه، ‏{‏ولن يَتِرَكُمْ أعمالكم‏}‏ لن يضيعها، من‏:‏ وترت الرجل‏:‏ إذا قتلت له قتيلاً، من ولد أو أخ أو حميم، فأفردته منه، حتى صار وتراً، عبّر عن ترك الإثابة في مقابلة العمل بالوتر، الذي هو إضاعة شيء معتد به من الأنفس والأموال، مع أن الأعمال غير موجبة للثواب على قاعدة أهل السُنَّة، إبرازاً لغاية للطف، بتصوير الثواب بصورة الحق المستحق، وتنزيل ترك الإثابة منزلة إضاعة أعظم الحقوق وإتلافها، سبحانه من رب رحيم‏!‏‏.‏

‏{‏إِنما الحياةُ لعبٌ ولهوٌ‏}‏ لا ثبات لها، ولا اعتداد بها، فلا تُؤثروا حياتها الفانية على الحياة الأبدية بالموت في الجهاد الأصغر أو الأكبر، ‏{‏وإِن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم‏}‏ أي‏:‏ ثواب إيمانكم وأعمالكم من الباقيات الصالحات، التي فيها يتنافس المتنافسون، ‏{‏ولا يسألكم أموالَكمْ‏}‏ بحيث يُخل أداؤها بمعايشكم، وإنما سألكم نزراً يسيراً؛ هو ربع العشر، تؤدونه إلى فقرائكم‏.‏

‏{‏إِن يسألكُمُوها‏}‏ أي‏:‏ جميع أموالكم ‏{‏فيُحْفِكم‏}‏ أي‏:‏ يجهدكم بطلب الكُل، فالإحفاء والإلحاف‏:‏ المبالغة في السؤال‏:‏ وبلوغ الغاية، يُقال‏:‏ أحفاه في المسألة‏:‏ إذا لم يترك شيئاً من الإلحاح، وأحفى شاربه‏:‏ استأصله، أي‏:‏ إن يسألكم جميعها ‏{‏تبخلوا‏}‏ فلا تُعطوا شيئاً، ‏{‏ويُخرجْ أضغانكم‏}‏ أي‏:‏ أحقادكم؛ لأن عند سؤال المال يظهر الصادق من الكاذب، وضمير «لا يسألكم» وما بعدها للّه أو لرسوله‏.‏

وضمير «يُخرج» لله تعالى، ويؤيده القراءة بنون العظمة، أو البخل؛ لأنه سبب الأضغان‏.‏

‏{‏ها أنتم هؤلاء‏}‏ أي‏:‏ يا هؤلاء، وقيل‏:‏ ‏{‏ها‏}‏‏:‏ للتنبيه، و‏{‏هؤلاء‏}‏‏:‏ موصول بمعنى «الذين»، وصلته‏:‏ ‏{‏تُدْعَون‏}‏ أي‏:‏ أنتم الذي تُدعون ‏{‏لتُنفقوا في سبيل الله‏}‏ هي النفقة في الغزو والزكاة، كأنه قيل‏:‏ الدليل على أنه لو أحفاكم لبخلتم أنكم تدعون إلى أداء ربع العشر، ‏{‏فمنكم مَن يبخلُ‏}‏ أي‏:‏ فمنكم ناس يبخلون به، ‏{‏ومَن يبخلْ‏}‏ بالصدقة وأداء الفريضة ‏{‏فإِنما يبخلُ على نفسه‏}‏ فإنَّ كُلاًّ مِن نفع الإنفاق وضرر البخل عائد إليه، وفي حديث الترمذي‏:‏ «السخي قريبٌ من الله، قريب من الجنة، قريب من الناس، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار، ولجاهلٌ سخيٌّ أحبُّ إلى الله من عابدٍ بخيل» وفي رواية‏:‏ «من عالم بخيل» والبخيل يتعدّى ب «عن»، و«على» لتضمُّنه معنى‏:‏ الإمساك والعدي‏.‏

‏{‏والله الغنيُّ‏}‏ عن كل ما سواه، ويفتقر إليه كُلَّ ما عداه، ‏{‏وأنتم الفقراءُ‏}‏ أي‏:‏ إنه- تعالى- لا يأمر بذلك لحاجته إليه؛ لأنه الغنيُّ عن الحاجات، ولكن لحاجتكم وفقركم إلى الثواب، ‏{‏وإِن تَتولَّوا‏}‏ أي‏:‏ وإن تُعرضوا أيها العرب عن طاعته، وطاعة رسوله، والإنفاق في سبيله ‏{‏يستبدل قوماً غيرَكم‏}‏ يخلف قوماً خيراً منكم وأطوع، ‏{‏ثم لا يكونوا أمثالكم‏}‏ في الطاعة، بل أطوع، راغبين فيما يقرب إلى الله ورسوله، وهم فارس، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء القوم- وكان سلمان إلى جنبه، فضرب على فخذه، فقال‏:‏ «هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثُريا لتناوله رجالٌ من فارس»‏.‏

قلت‏:‏ صدق الصادق المصدوق، فكم خرج منهم من جهابذة العلماء، وأكابر الأولياء، كالجنيد، إما الصوفية، والغزالي، حَبر هذه الأمة، وأضرابهما‏.‏ وقيل‏:‏ الملائكة، وقيل‏:‏ الأنصار، وقيل‏:‏ كندة، وقيل‏:‏ الروم، والأول أشهر‏.‏

الإشارة‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول‏}‏ أو خليفته، وهو الداعي إلى الله على بصيرة العيان، ولا تُبطلوا أعمالكم، برجوعكم عن السير، بترك المجاهدة قبل المشاهدة‏.‏ إنَّ الذين كفروا بوجود خصوصية التربية، وصدُّوا الناسَ عنها، ثم ماتوا على ذلك، لن يستر اللّهُ مساوئهم، ولا يُغيّبهم عن شهود نفوسهم التي حجبتهم عن الله‏.‏ فلا تهنوا‏:‏ ولا تضعُفوا، أيها المترفهون، عن مجاهدة نفوسكم، فينقطع سيركم، وذلك بالرجوع إلى الدنيا، ولا تدعوا إلى السلم والمصالحة بينكم وبين نفوسكم، وأنتم الأعلون، قد أشرفتم على الظفر بها، والله معكم؛ لقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنآ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 69‏]‏ ولن ينقصكم شيئاً من أعمالكم، بل يُريكم ثمرتها، عاجلاً وآجلاً، ولا يفترنَّكم عن المجاهدة طولُ الأمل‏.‏

إنما الحياة الدنيا لعب ولهو؛ أي‏:‏ ساعة من نهار، وإن تُؤمنوا بكل ما وعدَ اللّهُ، وتتقوا كل ما يشغل عن الله، يُؤتكم أجوركم عاجلاً وآجلاً، ولا يسألكم الداعي إليه جميعَ أموالكم، إنما يسألكم ما يَخف عليكم، تُقدموه بين يدي نجواكم، ولو سألكم جميع أموالكم لبخلتم، ويُخرج إضغانكم، وهذا في حق عامة المريدين، وأما الخاصة الأقوياء، فلو سُئلوا أرواحَهم لبذلوها، واستحقروها في جنب ما نالوا من الخصوصية، وأما أموالهم فأهون عندهم من أن يبخلوا بشيء منها، ويُقال لعامة الطالبين للوصول‏:‏ ‏{‏ها أنتم هؤلاء تُدعون‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

قال القشيري‏:‏ والله الغني لذاته بذاته، ومن غنائه‏:‏ تمكُّنه من تنفيذ مُراده، واستغناؤه عما سواه، وأنتم الفقراء إلى الله، في نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، في الابتداء ليخلقكم، وفي الوسط ليُربيكم، وفي الانتهاء يفنيكم عن أنانيتكم، ويُبقيكم بهويته، فالله غني عنكم من الأزل إلى الأبد، وأنتم الفقراء محتاجون إليه من الأزل إلى الأبد‏.‏ ه‏.‏ وإن تتولوا عن السير، وتركنوا إلى الرخص والشهوات قبل التمكين، يستبدل قوماً غيركم، يكونوا أحزم منكم، وأشد مجاهدة، صادقين في الطلب، ثابتين القَدم في آداب العبودية، قد أدركتهم جذباتُ العناية، وهَبَّتْ عليهم ريحُ الهداية، ثم لا يكونوا أمثالكم في التولِّي والضعف، حتى يصلوا إلى مولاهم‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وصلّى لله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلّم‏.‏

سورة الفتح

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ‏(‏1‏)‏ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏2‏)‏ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّا فتحنا لك‏}‏ الفتح عبارة عن الظفر بالبلدة عنوةً أو صُلحاً، بحرب أو بدون، فإنه ما لم يقع الظفر مُنْغَلِقٌ، مأخوذ من‏:‏ فتح باب الدار‏.‏ وإسناده إلى نون العظمة لإسناد الفعل إلى الله تعالى خلقاً وإيجاداً‏.‏ قيل‏:‏ المراد به فتح مكة، وهو المروي عن أنس رضي الله عنه، بُشِّر به صلى الله عليه وسلم عند انصرافه من الحُديبية‏.‏ والتعبير عنه بصيغة الماضي على سَنَن الأخبار الإلهية المحققة الوقوع، للإذيان بتحققه، تأكيداً للتبشير، وتصدير الكلام بحرف التحقيق لذلك، وفيه من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبَر به- وهو الفتح- ما لا يخفى‏.‏ وقيل‏:‏ هو فتح الحديبية، وهو الذي عند البخاري عن أنس، وهو الصحيح عند ابن عطية، وعليه الجمهور‏.‏ وفيها أُخذت البيعة على الجهاد، وهو كان سبب إظهار الإسلام وفشوه، وذلك أنّ المشركين كانوا ممنوعين من مخالطة أهل الإسلام، للحرب التي كانت بينهم، فلما وقع الصلح اختلط الناسُ بعضهم مع بعض، وجعل الكفارُ يرون أنوارَ الإسلام، ويسمعون القرآن، فأسلم حينئذ بشر كثير قبل فتح مكة‏.‏

وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن رجلاً قال‏:‏ ما هذا بفتح، لقد صَدُّونا عن البيت، ومَنعونا، قال‏:‏ «بل هو أعظم الفتوح، وقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح، ويسألوكم القضية، ويرغبوا إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما يكرهون» وعن الشعبي أنه قال‏:‏ نزلت سورة الفتح بالحديبية، وأصاب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة ما لم يصب في غزوة، حيث بُويع بيعة الرضوان، وغُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وبلغ الهَديُ مَحِلَّه، وبُشِّروا بخيبر، وظهرت الروم على فارس، ففرح به المسلمون، وكان في فتح الحديبية آية عظيمة، وهي أنه نزح ماؤها حتى لم يبقَ فيها قطرة، فتمضمض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثم مجّه فيها، فدرّت بالماء، حتى شرب جميع مَن كان معه، وقيل‏:‏ جاش بالماء حتى امتلأت ولم ينفد ماؤها بعدُ‏.‏ وقيل‏:‏ هو جميع ما فتح له صلى الله عليه وسلم، من الإسلام، والدعوة، والنبوة، والحجة، والسيف، ولا فتح أبين منه وأعظم، وهو رأس الفتوح كافة؛ إذ لا فتح من فتوح الإسلام إلا هو شعبة من شُعبه، وفرع من فروعه‏.‏ وقيل‏:‏ الفتح‏:‏ بمعنى القضاء، والمعنى‏:‏ قضينا لك على أهل مكة أن تدخلها من قابل، وأيّاً ما كان فحذف المفعول للقصد إلى نفس الفعل، والإيذان بأنّ مناط التبشير هو نفس الفتح الصادر عنه سبحانه، لا خصوصية المفتوح‏.‏ قاله أبو السعود‏.‏

‏{‏فتحاً مبيناً‏}‏ ظاهر الأمر، مكشوف الحال، فارقاً بين الحق والباطل‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليغفر لك اللّهُ‏}‏ غاية للفتح، من حيث إنه مترتب على سعيه صلى الله عليه وسلم في إعلاء كلمة الله، بمكابدة مشاق الحروب، واقتحام موارد الخطوب، أي‏:‏ جعلنا الفتح على يديك، وبسبب سعيك، ليكون سبباً لغفران الله لك ‏{‏ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر‏}‏ أي‏:‏ جميع ما فرط منك من ترك الأولى، وما سيقع، وتسميته ذنباً بالنظر إلى منصبه الجليل، وتقدم قريباً تحقيقه‏.‏

وقول الجلال‏:‏ «اللام للعلة الغائبة فمدخولها مسبب لا سبب، لا يريد التعليل على حقيقته العقلية، فإنه عليه تعالى محال، وإنما يُريد صورة التعليل، الذي هو حكمة الشيء، وفائدته العائدة على خلقه، فضلاً وإحساناً، فالحِكمُ والمصالح غاية لأفعاله تعالى، ومنافع راجعة إلى المخلوقات، وليس شيء منها غرضاً وعلة غائية لفعله، بحيث يكون سبباً لإقدامِه على الفعل، وعلة غائية للفعل؛ لغناه تعالى، وكماله في ذاته عن الاستكمال بفعل من الأفعال، وما ورد في الآيات والأحاديث مما يُوهم الغرض والعلة فإنه يُحمل على الغايات المترتبة والحكمة، فاحتفظ بذلك‏.‏ قاله صابح الحاشية الفاسية‏.‏ واللائق أن المعنى‏:‏ إنا فتحنا لك وقضينا لك بأمرٍ عاقبته أن جَمَعَ الله لك بين سعادة الدنيا والآخرة، بأن غفر لك، وأتمّ نعمته عليك وهداك، ونصرك‏.‏ فاللام لام العاقبة لا لام العلة؛ فإن إفضال الله على رسوله لا يُعلل ولا يُوازي بعمل‏.‏ ه‏.‏

‏{‏ويُتم نعمتَه عليك‏}‏ بإعلاء الدين، وضم المُلك إلى النبوة، وغيرها مما أفاض عليه من النعم الدينية والدنيوية، ‏{‏ويهيديَكَ صراطاً مستقيماً‏}‏ أي‏:‏ يُثبتك على الطريق القويم، والدين المستقيم، والاستقامة وإن كانت حاصلة قبل الفتح، لكن حاصل بعد ذلك من اتضاح سبيل الحق، واستقامة مناهجه، ما لم يكن حاصلاً قبلُ‏.‏ ‏{‏ويَنصُرَك اللّهُ‏}‏ أي‏:‏ يُظهر دينك، ويُعزّك، فإظهار الاسم الجليل لكونه خاتمة الغايات، ولإظهار كمال العناية، بشأن النصر، كما يُعرب عنه تأكيده بقوله‏:‏ ‏{‏نصراً عزيزاً‏}‏ أي‏:‏ نصراً فيه عزة ومنعه، أو‏:‏ قوياً منيعاً، على وصف المصدر بوصف صاحبه، مجازاً، للمبالغة، أو‏:‏ عزيزاً صاحبه‏.‏

الإشارة‏:‏ ‏{‏إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً‏}‏ بأن كشفنا لك عن أسرار ذاتنا، وأنوار صفاتنا، وجمال أفعالنا، فشاهدتنا بنا، ليغفر لك الله، أي‏:‏ ليُغيبك عن وجودك في شعور محبوبك، ويستر عنك حسك ورسمك، حتى تكون بنا في كل شيء، قديماً وحديثاً، قال القشيري‏:‏ وذنب الوجود هو الشرك في الوجود، وغفره‏:‏ ستره بنور الوحدة، لمحو ظلمة الأثينية ه‏.‏ ويُتم نعمته عليك بالجمع بين شهود الربوبية، والقيام بآداب العبودية، ودلالة الخلق على شهود قيام الديمومية، ويهديك طريقاً مستقيماً تُوصل إلى حضرتنا، فتسلكها وتُبينها لمَن يكون على قدمك، وينصرك الله نصراً عزيزاً، بالتمكُّن في شهود ذاتنا، والعكوف في حضرتنا، محفوفاً بالنصرة والعناية، محمولاً في محفَّة الرعاية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 7‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏4‏)‏ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏5‏)‏ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏6‏)‏ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏هو الذي أنزل السكينةَ‏}‏ أي‏:‏ السكون والطمأنينة، فعلة، من‏:‏ السكون، كالبهيتة من البهتان، ‏{‏في قلوب المؤمنين‏}‏ حتى لم يتضعضعوا من الشروط التي عقدها صلى الله عليه وسلم مع المشركين، مَن رَدّ مَن أسلم منهم، وعدم ردهم مَن رجع إليهم، ومِن دخول مكة قابلاً بلا سلاح، وغير ذلك مما فعله صلى الله عليه وسلم معهم بالوحي، وما صدر عن عمر رضي الله عنه فلشدة قوته وصلابته، وما زال يعتق ويفعل أموراً كفارة لذلك‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏السكينة‏}‏‏:‏ الصبر على ما أمر به الله من الشرائع والثقة بوعد الله، والتعظيم لأمر الله، ‏{‏ليزدادوا إيماناً مع إِيمانهم‏}‏ أي‏:‏ يقيناً إلى يقينهم، أو‏:‏ إيماناً بالشرائع مع إيمانهم بالعقائد‏.‏

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال‏:‏ بعث الله نبيه بشهادة «ألا إله إلا الله» فلما صدَّقوه فيها، زادهم الصلاة، فلام صدّقوه، زادهم الزكاة، فلما صدّقوه، زادهم الحج، فلما صدّقوا زادهم الجهاد، ثم أكمل لهم دينهم، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنودُ السماوات والأرض‏}‏ يُدبرها كما يريد، يُسلط بعضها على بعض تارة، ويوقع الصلح بينهما أخرى، حسبنا تقتضيه مشيئته المبنية على الحِكَم والمصالح، ‏{‏وكان الله عليماً‏}‏ مبالغاً في العلم بجميع الأمور ‏{‏حكيماً‏}‏ في تدبيره وتقديره‏.‏

‏{‏ليُدخل المؤمنين والمؤمنات‏}‏ اللام متعلق بما يدل عليه ما ذكر من قوله‏:‏ ‏{‏ولله جنود السماوات والأرض‏}‏ من معنى التصرُّف، أي‏:‏ دَبّر ما دَبَّر من تسليط المؤمنين، ليعرفوا نعمة الله ويشكروها، فيدخلهم ‏{‏جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها ويُكَفِّرَ عنهم سيئاتهم‏}‏ أي‏:‏ يُغطّي عنهم مساوئهم، فلا يظهرها لهم ولا لغيرهم‏.‏ وتقديم الإدخال على التكفير، مع أن الترتيب في الوجود على العكس؛ للمسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى‏.‏ ‏{‏وكان ذلك‏}‏ أي‏:‏ ما ذكر من الإدخال والتكفير ‏{‏عند الله فوزاً عظمياً‏}‏ لا يُقادر قدره؛ لأنه منتهى ما امتدت إليه أعناق الهمم من جلب نفع ودفع ضر‏.‏ و«عند الله»‏:‏ حال من «فوزاً عظيماً» لأنه صفته في الأصل، فلما قُدّم عليه صار حالاً، أي‏:‏ كائناً عند الله في علمه وقضائه‏.‏ والجملة اعتراض مقُرِّرٌ لما قبله‏.‏

‏{‏ويُعذِّب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات‏}‏ لِما أغاظهم من ذلك وكرهوه، وهو عطف على «يدخل»، وفي تقديم المنافقين على المشركين ما لا يخفى من الدلالة على أنهم أحق منهم بالعذاب‏.‏ ‏{‏الظانين بالله ظَنَّ السَّوءِ‏}‏ أي‏:‏ ظن الأمر السَّوء، وهو ألا ينصر الله رسولَه والمؤمنين، ولا يُرجعهم إلى مكة، فالسَّوء عبارة عن رداءة الشيء وفساده، يقال‏:‏ فِعْلُ سَوُءٍ، أي‏:‏ مسخوط فاسد‏.‏ ‏{‏عليهم دائرةُ السَّوءِ‏}‏ أي‏:‏ ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين، وهو دائر عليهم وحائق بهم‏.‏

وفيه لغتان‏:‏ فتح السين وضمها، كالكَره والكُره، والضَّعف والضَّعف، غير أن المفتوح غلب عليه أن يُضاف إليه ما يُراد ذمّه من كل شيء، وأما السُوء فجارٍ مجرى الشيء الذي هو نقيض الخير، أي‏:‏ الدائرة التي يذمونها ويسخطونها دائرة عليهم، ولاحقة بهم، ‏{‏وغَضِبَ اللّهُ عليهم ولعنهم وأعدَّ لهم جهنم وساءت مصيراً‏}‏ لهم، وهو عطف لما استوجبوه في الآخرة على ما استوجبوه في الدنيا، وعطفَ «ولعنهم» وما بعده بالواو، مع أن حقهما الفاء المفيدة للسببية؛ إيذاناً باستقلال كل واحد منها بالوعيد، وأصالته، من غير استتباع بعضها لبعض‏.‏

‏{‏ولله جنودُ السماوات والأرض‏}‏ إعادة لما سبق، وفائدتها‏:‏ التنبيه على أن لله جنود الرحمة وجنود العذاب، كما ينبئ عنه التعرُّض لوصف العزة في قوله‏:‏ ‏{‏وكان اللّهُ عزيزاً‏}‏ أي‏:‏ غالباً فلا يُردّ بأسمه ‏{‏حكيماً‏}‏ فلا يعترض صنعه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ هو الذي أنزل السكينة في قلوب المتوجهين، حتى سكنوا لصدمات تجلِّي الجلال، وأنوار الجمال، وسكنوا تحت مجاري الأقدار، كيفما برزت، بمرارة أو حلاوة، قال القشيري‏:‏ والسكينةُ‏:‏ ما يسكن إليه القلبُ من أنوار الإيمان والإيقان، أو العرفان بمشاهدة العيان، بل الاستغراق في بحر العين بلا أين‏.‏ ه‏.‏ ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، فيترقُّوا من مقام الإسلام إلى مقام الإيمان، ومن مقام الإيمان إلى مقام الإحسان، أو من علم اليقين إلى عين اليقين، ومن عين اليقين إلى حق اليقين، أو من المراقبة إلى المشاهدة، أو من رؤية الأسباب إلى مسبب الأسباب‏.‏

‏{‏ولله جنودُ السماوات والأرض‏}‏ وهي الجنود التي يمد الله بها الروح في محاربتها للنفس، حتى تغلبها وتستولي عليها، وهي اليقين، العلم، والذكر، والفكر، والواردات الإلهية، التي تأتي من حضرة القهّار، فتدمغ كل ما تُصادمه من الأغيار والأكدار، وكان الله عليماً بمَن يستحق هذه الواردات، حكيماً في ترتيبها وتدبيرها، ليُدخل مَن تأيّد بها جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم والحِكَم، ويغطي عنهم مساوئهم حتى يصلوا إليه، بما منه إليهم، لا بما منهم إليه وهذا هو الفوز العظيم، يفوز صاحبه بالنعيم المقيم، في جوار الكريم‏.‏ ويُعذب أهل النفاق المنتقدين على أولياء الله، المتوجهين إليه، الظانين بالله ظن السوء، وهو أن خصوصية التربية انقطعت‏.‏ ‏{‏ولله جنود السماوات والأرض‏}‏ أي‏:‏ جنود الحجاب، وهو جند النفس، من الهوى والشيطان، والدنيا والناس، يُسلطها على مَن يشاء من عباده، إن يبقى في ظلمة الحجاب، والله غالب على أمره‏.‏